أشرقت شمس السادس والعشرين من سبتمبر الماضي ولم تغرب إلا بعدما عمّ الحزن ربوع العالم الإسلامي؛ حيث غربت فيه شمس أخرى كانت مشرقة بالعلم والمعرفة، امتدت أشعتها إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ فملأتها علماً وفكراً ودعوة وجهاداً.. إنها شمس العلاَّمة الإمام الشيخ د. يوسف القرضاوي، الذي قبضه الله تعالى بعد نحو عشرة عقود من الزمان، مخلفاً وراءه إرثاً عظيماً حقيقاً بأن تظل شمس الشيخ في الأفق يقتبس من نورها المقتبسون ويستضيء بضيائها المستضيئون.
ولا ريب أن موت العالِم خطْبُه جلل وبلاؤه عظيم ورزيته كبيرة، أو كما قال الحسن البصري، يرحمه الله: «موتُ العالِم ثُلْمة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما طرد الليل والنهار»؛ فإذا كان هذا العالِم في قامة الإمام القرضاوي وقيمته؛ فإن الخطب سيكون أجلّ والبلاء أعظم والرزية أكبر، وصدق الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقْد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقْد شخص يموت بموته خلق كثير
ولكنَّ عزاءنا أن الشيخ الإمام رحل وترك خلفه إرثاً كبيراً ينوء بمثله أولو العزائم والنهى، ينبئك عن ذلك موسوعة الأعمال الكاملة المرتقب صدورها قريباً، إن شاء الله تعالى؛ حيث جاءت في 105 مجلدات، بمجموع 75 ألف صفحة، بمعدل تأليف 3 صفحات يومياً (إذا تم تقسيمها على أيام عمره كله منذ ولادته حتى وفاته)؛ ولذا نرجو أن يكون، رحمة الله عليه، ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل: أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟ قالَ: «مَن طالَ عمرُهُ، وحَسنَ عملُهُ».
ولعل علامات حُسن عمل الإمام القرضاوي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ حيث ضرب في كل مجال من مجالات العلم الشرعي والعمل الإسلامي بحظ كبير ونصيب وافر؛ يشهد على ذلك ما ورَّثه في ميادين التأليف والدعوة والعمل الخيري ودعم المجاهدين ومجابهة الحكام الظالمين.. إلى آخر هذه الأعمال التي حُبِّرت فيها المجلدات العظام، وألقيت فيها الخطب الطوال، ومنه ما وضَّحه هو، يرحمه الله، بقوله: «منهجي الذي اتبعته طوال حياتي: عرفتُ الإسلام بشموله، ووعيته نظاماً للحياة في كلِّ جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية؛ (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).
وإننا في مجلة «المجتمع» نرجو أن يكون في هذا العدد من المجلة بعض معالم إرث الشيخ القرضاوي وبعض الإشارات الدالة عليه؛ حيث خصصت المجلة ملف هذا الشهر وفاءً له وتقديراً لمكانته، رغم قلة المساحة وضيق الوقت؛ حيث وافته المنية قبيل طباعتها؛ فتم تغيير المسار وتدارك الموقف حسب ما سمح به المقام.
ونسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ رحمة واسعة، ويسكنه فسيح جناته، ويجزيه عن العلم والعلماء والعمل الإسلامي والخيري والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها خير الجزاء، وأن يخلف على الأمة خيراً.