أعلن عمدة مدينة بنزرت (أقصى الشمال التونسي) كمال بن عمارة عن إعداد ملف لتقديم شكوى ضد فرنسا بسبب عدوانها على المدينة إبان الاحتلال الفرنسي لتونس، ويطالب بالتعويضات في خطوة متقدمة لدفع الدولة التونسية للنسج على نفس المنوال، وذلك لأن بنزرت من أكثر المدن التي تضررت من الاحتلال الفرنسي، حيث ظل الجيش الفرنسي بالمدينة حتى 15 أكتوبر 1963، في حين أن الحكومات المتعاقبة تحتفل بذكرى “الاستقلال” بتاريخ 20 مارس 1956، وهو خلل منهجي وتاريخي، وإلا كيف يحتفل شعب بذكرى استقلال كان المحتل يسيطر على جزء مهم من أرضه بعد ذلك التاريخ لمدة سنوات.
وقال بن عمارة، في تصريح لـ”المجتمع”: نعلن عن عزمنا رفع شكوى ضد الدولة الفرنسية للتعويض عن الخسائر العامة والخاصة التي لحقت بمدينة بنزرت جراء الاحتلال الفرنسي الغاشم لمدينتنا، وقد تم إعداد الملف وسنقدمه الآن للمحاكم الدولية.
جرائم لا تسقط بالتقادم
وأفاد بن عمارة بأن الملف تم إعداده بعد استشارة خبراء ومحامين تونسيين ودوليين، مشيراً إلى أن الخسائر كبيرة جداً، فعند خروج الجيش الفرنسي من بنزرت بالمقاومة المسلحة تعرضت عدة بنايات للدمار، وكذلك الجسور والطرقات، فضلاً عن الأرواح البريئة التي أزهقت ظلماً وعدواناً، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.
وذكر بأن الشكاية إلى المحاكم الدولية سيتقدم بها من تضرروا أيضاً من العدوان الفرنسي على المدينة سواء إبان الاحتلال أو أثناء المقاومة التي قامت بطرده من بنزرت، وهو ما ينطبق على مدن وجهات أخرى مثل ساقية سيدي يوسف على الحدود مع الجزائر، حيث اختلط الدم التونسي بالدم الجزائري في تلك الواقعة.
وأعرب عن أسفه لعدم قيام الدولة التونسية برفع قضية في التعويضات من فرنسا منذ ما يزيد على 6 عقود، وأرجع ذلك لهوان داخلي وربما ضغوط فرنسية في هذا الاتجاه، أو كما يقول آخرون: اتفاقات سرية ربما بين فرنسا ومن سلمت لهم مقاليد الأمور في حدود معينة بعد الاحتلال المباشر.
جرائم بعد “الاستقلال”
لم تنحصر جرائم الاحتلال الفرنسي في تونس، وفق بن عمارة، على مدى سنوات الاحتلال المباشر من عام 1881 إلى 1956 فقط، بل تمتد إلى سنوات ما بعد الاستقلال، ومنها بالخصوص قصف قرية سيدي يوسف عام 1958 على الحدود التونسية الجزائرية، ومعركة بنزرت عام 1961 واستمرت حتى عام 1963، عدا عن ارتكابها جرائم ضد المقاومين المسلحين في جبال تونس وأريافها ممّن عارضوا مسار الاستقلال الداخلي منذ عام 1955 ممّن عدوه استقلالاً مغشوشاً.
ووفقاً لدراسات وتحقيقات أعدتها “هيئة الحقيقة والكرامة” التي تأسست بعد الثورة التونسية، تفيد بأنها تلقت 1782 ملفاً من المقاومين من بينهم 367 امرأة، وأن عددًا من الملفات أشارت إلى وجود رفات مقاومين متناثرة في مناطق جبلية من الجنوب التونسي.
وارتكب جيش الاحتلال الفرنسي، سنوات ما قبل الاستقلال، جرائم حرب ومجازر في مناطق مختلفة من التراب التونسي، حيث قام بإعدامات عشوائية، واغتصاب النساء وقتلهم، والاعتداء على الممتلكات ومصادرتها، والاعتداء على المساجد إضافة لهدم المنازل بالجرافات.
جرائم ضد الإنسانية
كما نفذ المحتل الفرنسي جرائم ضد الإنسانية، قبيل الدخول في مفاوضات الاستقلال، بالتصفية الجسدية لعدد من القيادات الدستورية والزعماء الوطنيين في مقدمتهم مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد، والزعيم الوطني الهادي شاكر، والطبيب المناضل عبدالرحمن مامي، وذلك على يد منظمة “اليد الحمراء” الفرنسية.
وانتهج سياسة الاغتيالات والتصفيات لبث الرعب في صفوف القيادات الوطنية التونسية، ولكن اللافت للانتباه هو بقاء هذه الاغتيالات دون محاسبة رغم بيان فاعليها والمتورطين فيها.
بل والأغرب من ذلك، ما ذكره المقاوم حمادي غرس بأنه أُطلق سراح أعضاء عصابة “اليد الحمراء” من طرف السلطة التونسية بعد الاستقلال، وهو ما تضمنه التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة.
مطالب بالاعتذار والتعويض
وطالبت هيئة الحقيقة والكرامة، المكلفة بالعدالة الانتقالية وذلك قبيل انتهاء أعمالها، فرنسا وعبر مذكرة رسمية مرفوعة إلى رئيسها إيمانويل ماكرون، بالاعتراف والاعتذار عمّا ارتكبته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ومنها انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين، وذلك بعد تحديد مسؤولية فرنسا خلال فترة احتلالها لتونس بين عامي 1881 و1956 وما بعدها.
كما طالبت الهيئة فرنسا باتخاذ التدابير اللازمة لجبر الضرر والتعويض المادي للضحايا أفرادًا أو جهات، عدا عن تعويض الدولة التونسية بصفتها ضحية استغلال اقتصادي غير عادل، مع المطالبة ثالثًا بإعادة الأرشيف التونسي من عام 1881 إلى 1963، ورابعًا بإلغاء الدين الخارجي التونسي لأنه غير شرعي.
وتعتبر المذكرة الأولى من نوعها، كما يؤكد بن عمارة، منذ الاستقلال التي تصدر عن مؤسسة عمومية تونسية، تحدد فيها مسؤوليات الاحتلال الفرنسي في إطار الصلاحيات الممنوحة بمقتضى قانون العدالة الانتقالية، خاصة في الفصل (39) منه الذي أوكل للهيئة المستقلة “تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة أو أي أطراف أخرى في الانتهاكات المشمولة بأحكام هذا القانون وتوضيح أسبابها واقتراح المعالجات التي تحول دون تكرارها مستقبلًا”، و”وضع برنامج شامل لجبر ضرر فردي وجماعي لضحايا الانتهاكات.
جرائم الاحتلال الفرنسي في تونس بين عامي 1952 و1955، فقط علاوة على غيرها من الجرائم منذ عام 1881 وحتى 1963 تمثل جرائم حرب ومجازر في مناطق مختلفة من التراب التونسي قام فيها بإعدامات عشوائية واغتصاب للنساء واعتداء على الرضع وقتلهم ومصادرة الممتلكات والسطو على المؤن في الأرياف والاعتداء على المساجد وهدم المنازل بالجرافات.