لله تعالى في دوران الزمان، وتقلب أحواله حِكَم بالغة، وأسرار عميقة، قد ندرك بعضها ويغيب عنا الآخر، ومما ظهر لأهل العلم أن من حكم ذلك أن تتهيأ للعبد في كل فصل من فصول السنة بما يميزه عن غيره من الفصول فرص العبادات قد لا تتهيأ له في غيره من الفصول، وقد يبتلى في بعضها بأمور وأحكام ليظهر صدق عبوديته، وكمال تسليمه لربه من سوى ذلك.
ولنأخذْ فصل الشتاء مثالاً؛ فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض ما فيه من الحكم، وقرر ما يتعلق به من أحكام وآداب، وكذلك السلف رضي الله عنهم قد ظهر لهم بعض ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً بعض حكم فصل الشتاء من حيث طول ليله، وقصر نهاره: “الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ” (أخرجه أحمد وحسنه الألباني).
وقال عمر رضي الله عنه: “الشّتاءُ غنيمةُ العابدين” (أخرجه أبو نعيم بإسناد صحيح).
ففي الحديث والآثار المذكورة الحث على قيام ليل الشتاء، أو جزء منه، وصيام نهاره، وأما الأحكام والآداب المتعلقة بالشتاء فكثيرة، منها:
1- لما كان بردُ الشتاء قارساً، ووقْعُ ماء الطهارة على الأجساد لاذعاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في إسباغ الوضوء؛ إذ يتوقع من بعض الناس التساهل في ذلك، وعدم الإسباغ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتاني الليلة آتٍ من ربي -وفي رواية- رأيت ربي في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد، قلت: لبيك رب وسعديك، قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي، أو قال في نحري، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض أو قال ما بين المشرق والمغرب، قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الدرجات، والكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير، ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، فقال: إذا صليت قل: “اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام” (أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وصححه الألباني).
فقوله: “إسباغ الوضوء في السّبرات” يعني في شدّة البرد.
2- لشدة البرد قد يترخص البعض في التيمم بدلاً عن الوضوء أو الغسل، والرخصة هنا موجودة، فقد فعلها عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما كان في سرية في ليلة باردة في الخلاء، فغسل ما يمكن غسله، ثم تيمم للباقي، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم. (أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني، وصححه الألباني).
والرخصة هنا لا شك فيها، ولكنها لمن يمسه البرد ويتعبه، ولا يجد من وسائل تسخين الماء ولا التدفئة والكساء ما يدفع عنه ضرر البرد، أما من كان في بيته، أو في مكان يجد فيها تلك الوسائل؛ فلا يشرع له ذلك.
3- ومن الأحكام التي نحتاج إليها في الشتاء: المسح على الخفاف والجوارب، وقد فصَّل الفقهاء أحكام المسح عليها، وشروط صحة المسح ومدته ونواقضه.. إلخ، فليرجع إليها هناك، وإنما غرضنا هنا الإشارة إلى ذلك.
4- ولأن الناس يبالغون في اللباس، ويغطون كل ما يقدرون عليه من أجسادهم؛ ينبغي التنبيه إلى أنه نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التلثم في الصلاة؛ أي أن يغطي فمه وأنفه؛ فينبغي التنبيه لذلك، والحذر منه حتى لا ندخل في النهي.
وحديث “النهي عن التلثم في الصلاة” (أخرجه أبو داود وابن ماجه).
5- قد يشتد البرد في بعض البلاد، وتنزل الثلوج أو تهب العواصف الباردة؛ فيحتاج الناس للجمع بين الصلاتين، وعندما يحصل ذلك فإنه ثبتت الرخصة في الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، والجمع في هذه الأحوال مثل الجمع في المطر.
كما ثبت من حديث عبدالله بن شقيق العقيلي قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس، وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة! قال: فجاءه رجلٌ من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة! فقال: ابن عباس أتعلمني بالسُّنة؟ لا أبا لك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبدالله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيءٌ، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، وفي حديث عمران بن حدير عن عبدالله بن شقيق قال: قال رجل ابن عباس: الصلاة فسكت، ثم قال: الصلاة فسكت، ثم قال: الصلاة فسكت، ثم قال: لا أم لك تعلمنا بالصلاة، وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (متفق عليه).
6- الرخصة في التخلف عن صلاة الجماعة لشدة البرد في العشاء والفجر، وقد فعل ذلك بعض الصحابة، ورد عن النبي صلى الله علية وسلم، والحديث في البخاري ومسلم، ولكن هنا ينبغي التنبيه إلى أنه ينبغي للمؤذن في مثل المطر والبرد الشديد، والريح العاصف ونزول الثلوج ونحو ذلك أن يقول إما بعد قوله: “حي على الفلاح”، أو بعد الانتهاء من الأذان: “صلوا في رحالكم”، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه.
7- يكثر في الشتاء وعند اشتداد البرد استخدام التدفئة حيناً بالوسائل القديمة من الحطب والفحم ونحوهما، وحيناً بالوسائل الحديثة مثل: الكهرباء ونحوها؛ فأما النار فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطفائها عندما يريد الإنسان أن ينام كما روى البخاري ومسلم، فلا ينبغي أن ينام أهل البيت وهي موقدة داخل البيت؛ حتى لا يحدث أن تشتعل فيما جاورها فيحصل حريق أو يحصل الاختناق حينما يكون المحل محكم الإغلاق، ومثل نار الحطب والفحم نار الغاز والكيروسين ونحوهما من الوقود، وأما الكهرباء فهي ألطف، ولكن إطفاء ذلك كله أولى وأهم، وقد حدثت حوادث كثيرة بسبب ترك ذلك.
هذه بعض الحكم والأحكام والآداب التي تكون في الشتاء، وبقي أمران:
الأول: أن يكون تقلب الزمان بين صيف وشتاء وعظاً لنا، بأن ذلك من مراحل أعمارنا تنقضي؛ فيجب أن يذكرنا ذلك بالانتباه إلى الحفاظ على الأعمار من الضياع، واستغلالها قبل هجوم المنون.
الثاني: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أذن لجهنم بنَفَسين: نفسٍ في الصيف، ونفس في الشتاء، وذلك أشد ما تجدون من الحر والبرد أو كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين، فينبغي أن نذكر بشدة البرد زمهرير جهنم حتى نحذرها، ونحذر أسبابها، ونستعيذ بالله تعالى منها.
_________________________________
المصدر: موقع “هيئة الشام الإسلامية” (بتصرف يسير).