في يوم الثلاثاء 17/ 8/ 1999، وقع زلزال مدمر في الدولة التركية، وكان هذا رأي «المجتمع» التي نشرته في العدد (1365) بتاريخ 20 جمادى الأولى 1420هـ/ 31/ 8/ 1999.
بين عشية وضحاها، تحولت مساحة قدرها 131 ألف كيلومتر مربع من شمال غرب تركيا إلى ساحة لمأساة مفتوحة تملؤها مشاهد الموت والدمار، ويلفها الحزن الكئيب، وتعصف بها رياح الفزع والأمطار الحمضية القاتلة.
خمسة وأربعون ثانية فقط من زلزال الثلاثاء كانت كافية لوقوع ما يقرب من 45 ألف قتيل وجريح و200 ألف مشرد في العراء يبحثون عن مأوى وهم يعتصرهم الألم وسط الحطام ورائحة الموت والخوف من المجهول.
وإلى جانب هذا العدد الهائل من أرواح الضحايا، تهون الخسائر المادية الضخمة التي يتحدثون عنها ويقدرونها بـ25 مليار دولار، فعلى الرغم من فداحة الأضرار المادية، ولكونها أصابت أكبر منطقة صناعية في البلاد، حيث يوجد بها ما يقرب من 50% من المصانع التركية على الرغم من كل ذلك، فإن الفجيعة الأكبر هي في أولئك الذين حصدتهم الكارثة، فهؤلاء جزء عزيز علينا من جسد أمتنا الإسلامية لا يمكن تعويضهم، وهم أغلى من كل شيء، وهذا هو الإحساس الذي نشعر به ويشعر به كل مسلم مصداقاً لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى».
وإذا كانت الكارثة قد وقعت -ولا راد لقضاء الله- فإن من الواجب أخذ العظة والعبرة منها على كافة المستويات الفردية والجماعية الأهلية والحكومية ذلك لأنها -على الرغم من مأساويتها- جاءت كلحظة كاشفة عن كثير من مواطن الضعف الإنساني الاجتماعي والإداري والسياسي، الذي تعاني منه الدولة التركية على رغم قوتها النسبية الظاهرية.
لقد كشفت الكارثة عن عجز جهاز الإدارة المدنية والعسكرية للدولة عن تأمين عناصر السلامة اللازمة لمواجهة حالات الطوارئ والأزمات ومن ذلك عدم وجود قواعد صارمة للبناء تراعي وجود البلاد على خط نشط للزلازل وهو ما يعرف بـ«شق الأناضول»، وعدم كفاية التجهيزات اللازمة للإسعافات الأولية، ووقوع الجهات المسؤولة عنها في حالة ارتباك شديد في أثناء الكارثة، مما أعاقها عن أداء واجبها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الجرحى والمصابين، وكشفت الكارثة أيضاً عن تفشي الفساد، والانحطاط الأخلاقي والمهني وبخاصة في قطاع التشييد والبناء وتحدثت وسائل الإعلام التركية عن عديد من المقاولين الذين دفعتهم شهوة الربح لغش مواد البناء والاستهانة بأرواح المواطنين وتعريضهم لخطر الموت وطالبت بتقديم بعضهم للمحاكمة، الأمر الذي يؤكد أن خراب الذمم والضمائر أسبق وأكثر خطورة من خراب المنشآت والعمائر التي دمرها الزلزال.
وعلى صعيد آخر، فإن الكارثة كشفت كذلك عن «تسييس الإغاثة» الإنسانية التي قدمتها بعض الجهات الخارجية واستغلالها لتحقيق مآرب مكشوفة ودنيئة، مثلما فعل الكيان الصهيوني الذي بادر بإرسال فرق إنقاذ انصبت جهودها على القاعدة العسكرية البحرية في مدينة خولجوك على بحر مرمرة، وتحدثت صحيفة «معاريف» الصهيونية صراحة عن أن «تل أبيب» وعواصم دول الاتحاد الأوروبي قررت تقديم الدعم للنظام العلماني التركي في محنته خوفاً من تداعيه أمام موجة الاستياء الشعبي، وخشية أن يستفيد الإسلاميون من هذه الحالة لتوسيع نفوذهم! حتى الإعاقة الإنسانية لم تنج من السياسة المنحرفة التي لا خلاق لها.
وأسوأ ما في الأمر على الصعيد الداخلي التركي انكشاف خواء السلطة العسكرية العلمانية التي طالما فردت عضلاتها في مواجهة المجتمع المدني، وقمعت باستمرار قواه وفاعلياته الإسلامية، ودأبت على إقصائهم بعيداً عن مراكز الحكم والإدارة بحجة المحافظة على النظام العلماني الفاشل وصيانة هيبة الدولة، وعندما دق ناقوس الخطر المزلزل لم تظهر فاعلية العسكر في إنقاذ المنكوبين، وتعرض الجيش لحملات لاذعة من الانتقادات نتيجة تباطئه وارتباكه في ظروف الكارثة، وزاد الطين بلة القرار الذي أصدره مجلس الأمن القومي التركي بسحب حق منح تراخيص البناء من أيدي رؤساء البلديات التي يتولاها الإسلاميون على الرغم من عدم ثبوت أي تقصير من جانبهم في هذا المجال، بل تفانيهم في القيام بواجبهم في خدمة وطنهم ومواطنيهم.
وعلى الرغم من كل المرارات التي خلفها هذا الزلزال المدمر، التي كشف عنها أيضاً، فإننا واثقون بعون الله من أن الشعب التركي المسلم سوف يتجاوز هذه المحنة بقوة وعزم واحتساب ما فقده عند الله تعالى.
أما تركيا الرسمية -الدولة والحكومة- فإنها تقف في مفترق طرق، وعليها أن تعيد النظر في سياساتها وتوجهاتها العامة داخلياً وخارجياً، وبخاصة بعد أن أظهرتها الكارثة ضعيفة ومرتبكة ولاهثة خلف المساعدات الأجنبية، فاشلة في تأمين العناية اللازمة لأبنائها الذين دهمهم الزلزال.
عليها -داخلياً- أن تفسح المجال أمام قوى المجتمع المدني وتياراته الفاعلة وفي مقدمتها التيار الإسلامي للمشاركة في إدارة شؤون البلاد والنهوض بها، فإقصاء هذا التيار خسارة محققة للمجتمع والدولة معاً، وعليها أيضا أن ترفع العقبات التي تحول بينها وبين الهوية الإسلامية الأصيلة للشعب التركي العريق، وأن تنهي حالة الانفصام النكد التي سببتها العلمانية الفاشلة بين السلطة والشعب أو بين الدولة والدين.
لقد تبين للدولة العلمانية التركية على مدى ثلاثة أرباع قرن فشل جميع محاولاتها لسلخ الشعب التركي عن هويته الإسلامية، كما تبين لها أن سعيها الدؤوب للالتحاق بالغرب يذهب دائماً أدراج الرياح، ولا يُقابل من القوى الغربية إلا بالاستهجان والازدراء في حين أن تركيا المسلمة وعاصمة الخلافة لقرابة خمسة قرون هي في غنى عن ذلك كله، وأمامها العالم الإسلامي كمجال حيوي مفتوح، وتربطها به أواصر العقيدة والتاريخ والمصالح المشتركة في الحاضر، وفي المستقبل، وبعودة الأمة إلى ربها تكون في مأمن من الكوارث والمصائب التي كان الزلزال أول نذير لها في تركيا دولة الخلافة التي جربت الحكم العلماني الفاشل.
ألا رجعة صادقة إلى الله حتى يعود إليها مجدها وسؤددها.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96).