حفظ لنا ديوان أدبي وهو كتاب «أدب الكاتب» لأبي بكر الصولي (ت 339هـ) (ص 193) حكاية مناظرة بين فارسي وعربي بين يدي الوزير العباسي الفارسي يحيى بن خالد البرمكي (ت 190هـ)، فقال الفارسيّ: «ما احتجنا إليكم قطُّ في عمل ولا تسمية، ولقد ملكْتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم وما فيها على ما سمّينا، ما غيرتموه!»، فقال الأعرابي: «اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة بعد ألف سنة كانت قبلها، فإننا بعدها لا نحتاج إليكم ولا إلى شيء كان لكم»، وإني لأجد في كلام هذا العربي وعيًا عظيمًا بالحضارة يكفي لإجابة هذا السؤال الكبير.
إن من طبيعة البشر منذ أن وُجدوا على هذه الأرض أن يختلفوا على صعيد الأفكار ثم ما يتبعه في الحياة الاجتماعية الذي سينبني عليه صراع آخر في محاولة فرض هذه التصورات، فكل طرف من المتنازعين يريد غلبة الآخر ليفرض الواقع الذي يريد، ولذلك نجد صراعًا دائمًا بين الحضارات لم ولن ينقطع، ولم ينكر وجود هذا أحد قط لا بلسان الحال ولا المقال، لكن كل طرف يدعي أحقيته في فرض تصوراته إما لكونها أخلاقية أكثر من غيرها أو لامتلاكها القوة مع ضعف غيرها أو لقدرتها على حل المشكلات أو غير ذلك من أسباب.
إن التاريخ الإنساني ليشهد على قيام حضارات كثيرة ثم سقوطها، كالحضارات الكنعانية والفرعونية واليونانية والهندوسية والفارسية والإسلامية وصولًا إلى الحضارة الغربية التي تهيمن الآن على الواقع السياسي والاقتصادي والفكري في عالمنا المعاصر، وإن الناظر يجد أن كل تلك الحضارات لم تبدأ من الصفر بل بنت حضاراتها على حضارة من سبقها من الأمم المهزومة، فلم تكن الحضارة الإسلامية وليدة الصحراء والرمال بل أخذت عن من هزمته من الأمتين الفارسية والرومية، وكذلك صنعت الحضارة الغربية مع الحضارة الإسلامية، فحين جاء الاستعمار أرسل في مقدمته حملات الاستشراق لكي تدرس علوم تلك الحضارة حتى تنصهر فيما بعد في بوتقته وقد كان، ودلائل ذلك أكثر من أن تحصى فدوننا مصنفات شتى في تاريخ الاستشراق وما صنع.
وإذا أردنا أن نجيب عن السؤال الأهم الذي عنونّا به المقال فنقول: إنه لا فضل لحضارة على حضارة حسب معيار السبق، لأن كل حضارة بنت على أنقاض حضارة سبقتها ثم طورتها وأدخلت فيها الجديد، ودواليك، أما إن اعتبرنا معايير أخرى أخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية فنستطيع بناءً عليها معرفة الكثير عن أفضلية حضارات على حضارات، فالعبرة ليست بقيام حضارة فحسب وإنما في الأساس الذي بنيت عليها والإسهامات التي أنتجتها من جميع الجهات المفيدة للإنسان، والمهم هنا هو التنبيه على أنه لا فضل في السبق لحضارة على حضارة، وما قاله الفارسي -الذي بدأنا بذكره المقال- للعربي هو نفس ما يقوله بعض العرب والمسلمين الآن للغربيين، وهو ما سيقوله الغربيون لمن سيرث حضاراتهم فيما بعد، لكنها فكرة مجانبة للصواب على كل حال.
ومن يريد من المسلمين الفخر على حضارة الغرب فلا يسعه الفخر بالسبق، فقد سبق المسلمين غيرُهم ولا شك، وإنما الفخر بما كانت عليه حضارة الإسلام من مراعاة لحق الله في الأرض ونشر الخير للدنيا بأسرها وتحقيق مراد الله سبحانه وتعالى من عبوديته وعدم الفساد في الأرض وغير ذلك مصداقًا لقوله تعالى: (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ) (الحج: 41)، بخلاف الحضارة الغربية التي استعبدت البشر وأفسدت البيئة وصنعت أعتى الأسلحة ودبرت أسوء الحروب مثل الذي قاله سبحانه وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، ولا يزال الجميع يجني آثار ذلك حتى إن الكثير من الأكاديميين الغربيين يبحثون في تفادي بعض تلك الآثار بمزيد من إنتاج الأبحاث ومقاومة سياسات كبرى الدول الغربية التي تنتج الواقع الفكري والاجتماعي عن طريق تلك السياسات، ولا شك أن الإسلام هو البديل عن كل ذلك فلن يصلح خلق الله إلا باتباع أمره، قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14).