لما كان المسلمون أمة واحدة، وجسداً واحداً، وروحاً تسري بين الجموع الموحدة، كان هذا الأصل التأسيسي في بناء المجتمع المسلم المتماسك المترابط، حيث عبر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظة «البنيان المرصوص»، الذي يشد بعضه بعضاً، والكائن الحي الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
في حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه».
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وإذا ثبتت الأخوة ودعائمها بمقتضى الدين وجبت ما بقي من لوازمها، فقد بقي لهذا المصطلح حقوق يجب أن تؤدى، وواجبات تراعى، وأمور لا فكاك منها؛ أولها سلامة الصدر ثم مجموعة من الحقوق الأخلاقية كرد السلام وإبداء النصيحة وتلبية الدعوة وتشميت العاطس وعيادة المريض واتباع الجنائز.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وقد راعى الإسلام أيضاً تلك الحقوق النفسية من المسلم تجاه أخيه فأوصاه ألا يحقره في ذلك الجزء الخفي من جسد الإنسان الذي لا يطلع عليه إلا الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.. بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» (رواه مسلم).
وفي هذا حكمة بالغة، فإن هذه المشاعر القلبية السلبية سرعان ما يتم ترجمتها إلى أفعال شائنة تؤجج الخلافات والشحناء بين أفراد الصف المسلم، وعلى النقيض إذا تحامل أحدهم على نفسه للإحسان إلى أخيه وهو يضمر له هذه المشاعر السلبية فإنه يربي في نفسه غريزة أن يبطن شيئاً ويظهر آخر، وهو من أسرع الأمور التي تعجل بصاحبها إلى النفاق في الدين.
وأخيراً، فقد حث الإسلام على الزيادة في مراتب الأخوة والمبالغة فيها، والوعد بثوابي الدنيا والآخرة، وتغذية مشاعر البذل والعطاء، وتقديم حق الأخوة على حق النفس؛ فمدح الله الأنصار لما حققوا معنى الأنصار، وقال عنهم: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)، فكانت المكافأة أن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار»، فأي كرامة تلك! وأي معروف هذا! وأي درجة نالها من آثر أخيه على نفسه وقدم ما ينتظره من أجر أخروي على حظوظ النفس وتقلبات الهوى!