أزمات الإنسان المعاصر لا تنتهي، وأغلبها نابع من داخله، فالتعاليم المتشابهة، والتأثير الطاغي للرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتشابه الأطعمة، والخضوع لمؤثرات شبه واحدة بين أغلب الناس، أوجدت شخصيات متشابهة، فتوارى كثير من التنوع الإنساني، بيد أن اختلال التوازن النفسي كان من أبرز أزمات الشخصية المعاصرة، ولعل ذلك يرجع إلى طغيان الفلسفة المادية على الحياة الإنسانية، وتراجع القيم الروحية والإيمانية والوجدانية.
هذا الاختلال كان فاتحة لتوازنات مفقودة في الحياة، فهذا الطغيان حصر الرؤية الإنسانية في المنفعة واللذة والإيمان بالمحسوسات كمدخل للمعرفة ورؤية للوجود، وفي مقابل ذلك تقزمت القيم الروحية، وتوارى تأثيرها في تشكيل الشخصية، فجنحت الشخصية الإنسانية مثل السفن التي تركزت حملتها في جانب دون الآخر، فأصبحت مهددة بالغرق.
ودور التوازن في المنظومة القيمية والسلوكية، يشبه قطرة الماء الموجودة في الأذن الوسطى، فأي اختلال بها يجعل الجسد يترنح، كأنه تعاطى المسكرات، فالتوازن خيط متغلغل في منظومة القيم بأكملها، يربطها، ويعطيها المعنى والأهمية، ورغم أن تعريفات التوازن متعددة، وتتقاطع مع مفاهيم كثيرة، كالاعتدال والوسطية، فإن التوازن يشكل حداً فاصلاً يؤشر على الاعتدال بين كفتي الميزان، بالقدر الذي يحقق التفاعل الجيد والنافع.
يتميز التوازن بأنه تفاعل بين الذات الإنسانية والبيئة المحيطة بها، وبين خبرات الشخص وحاجاته وتحدياته، وبين الهدف ووسائل تحقيقه والقدرة على إنجازه، وبين السعي للفوز في الآخرة والعبور على جسر الحياة الدنيا؛ لذا فالتوازن حالة سعي دائم، لتحقيق السعادة، والرضا، اللذين هما أعمدة التوازن النفسي.
القيم العــشر للتوازن
ومن مسببات التوازن الصحة الجيدة، التي تتحقق من خلال التوزان الغذائي، والتوازن بين النوم واليقظة والراحة، وممارسة الرياضة باعتدال، أما على المستوى النفسي، فمن الضروري أن يمتلك الإنسان معنى للحياة، وهدفاً لتحقيقه، وأن يكون مؤهلاً نفسياً لما سيلقى عليه من مهام، وأن يجد محيطاً أسرياً واجتماعياً يدعمه ويبذل له العاطفة والدعم النفسي، وأن يجد قنوات لإشباع حاجاته العاطفية، وأن يكون هناك مجال لتقبل أخطائه، والصفح عنها، وأن يتمتع المرء بجودة الصداقة، وأن يحظى بمجال للمنافسة يسمح بنمو شخصيته، وأن يتمتع بوقت يختلي فيه بنفسه فيتحدث إليها ويسمعها، لأن كلماته لنفسه هي الأهم، وأن يدرك بصورة واضحة أن الحياة لا تسير بوتيرة واحدة، فهناك من أحداثها الفرح والحزن، ولا بد أن يقبلها بتقلباتها، ويوطن نفسه على ذلك، وأن يمتلك قوة نفسية تمكنه من أن يعبر الأخبار السيئة دون أن تخدشه من داخله.
ولكن، ماذا يعني أن تكون متوازناً نفسياً؟ حدد علماء النفس بعضاً من السمات والقيم الواجب توافرها حتى يطلق على شخص ما أنه متوازن نفسياً، ففي جامعة زيورخ بسويسرا، قام عدد من الباحثين بإجراء دراسات ميدانية، وخلصوا أن التوازن النفسي «يتعلق بقدرة الشخص على امتلاك نظرة متسقة ومرنة للحياة مع معرفة كيفية قضاء الوقت المناسب في الاعتناء بالنفس مقابل الآخرين»، فهناك ارتباط وثيق بين التوزان والرفاهية والاستقرار النفسي في الحياة المتغيرة المتقلبة، وخلصت الدراسة إلى ضرورة وجود عشر قيم، حتى يتحقق التوازن، هي:
1- التوجيه الذاتي: وتعني أن الإنسان هو من يقرر من داخله الطريقة التي سيسر بها في الحياة، هذه الذاتية تملأ الشخص قناعة وإصراراً على مواجهة التحديات، وابتكاراً للوسائل للتغلب على العقبات.
2- التحفيز: وتعنى أن يمتلك الإنسان الحافز، وفي الرؤية الإيمانية، لا حافز أثمن من الجنة في الآخرة لتحقيق التوازن في الدنيا، لذلك كانت هناك أجور عظيمة للصابرين على المصائب وشدائد الحياة، وهو حافز يقوي النفس، ويحول دون انهيارها.
3- الإنجاز: هو أحد مداخل التوازن النفسي النابع من الرضا، لأن منطلق الإنجاز هو رغبة الداخل.
4- الأمـان: الخوف يجهد النفس، والبيت يلبي الحاجة الأساسية في المأوى والأمان، لذلك نظرت الرؤية الإسلامية للبيت على أنه «سكن»؛ أي مكان للسكينة والطمأنينة، وقد أطلق السكن في القرآن على أربعة أشياء، هي: البيت، والليل، والزوجة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
5- الاتساق: توجد نظرية في علم الاجتماع والنفس تسمى «نظرية الاتساق» (consistency theory» تؤكد وجود رغبة للأفراد في الحفاظ على التطابق أو الاتساق بين إدراكهم وبين بيئتهم الاجتماعية، وهذا التوافق يُحدث التوازن، ويبعد عن الفرد شبح الإقصاء والنبذ.
6- الاستمتاع بما هو موجود: فكثرة التشهي والتمني، تفقد الشخص توازنه، وتحرمه من الاستمتاع بالحاضر، وتصيبه بالهم المتواصل، لذلك كانت نصيحة القرآن؛ (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 32).
7- الــقوة: تحصيل أسباب القوة يعطل انهيار الشخص أمام أي أزمة، ووصايا الإسلام كثيرة، في ضرورة حفظ المال والهروب من الاستبداد، ففي الأثر: «لا عال من اقتصد»، وأن ينفر من الأرض التي تنتهك فيها الحريات، وأن يحافظ على صحته بالبعد عما يضعفها، وأن يحافظ على أسراره، وأن يقلل من احتياجاته؛ «اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم».
8- التأسي: الشخص عندما يجد نماذج سلوكية، انتصرت على المصاعب، يتأثر ويقتدي بها، لذلك كانت سير الصالحين والعظماء والناجحين ذات أهمية في التنشئة المتوازنة.
9- الإحسان: إذ لا بد للإنسان من جانب مشرق في حياته، فلا يبخل بمعروف أو معونة أو حتى كلمة طيبة وابتسامة صافية، وألا يحصر اهتمامه في ذاته الضيقة، فالفردانية مدمرة للتوازن والصحة النفسية، جاء في الحديث النبوي: «من أصبح والدنيا أكبر همه، جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، وكان الله بكل خير إليه أسرع» (رواه الإمام أحمد)، فأي توازن ممكن أن يتحصل عليه الشخص، إذا كان الفقر شاخصاً أمامه لا يفارقه.
10- الــكونية: وهي الانفتاح على الوجود، بمخلوقاته وسماواته وأرضه، هذا الانفتاح يجعل هموم الإنسان صغيره، ولا يرى في أزماته أنها نهاية الكون، ولكن يتلمس من اتساع الكون حلولاً وإمكانات واسعة للفرج لا تنضب، لذلك كانت نصيحة القرآن للمستضعفين، أن ينطلقوا في الأرض الفسيحة، ولا يتقيدوا بأغلال الأرض، قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) (النساء: 100)، جاء في تفسير المنار أن هذه الآية جاءت لـ«تنشيط المستضعفين وتجرئتهم على الهجرة واستنباط الحيل لها»، و«أنه لا يجوز لمسلم أن يقيم في بلد يكون فيها ذليلاً مضطهداً في حريته الدينية والشخصية».
تشير دراسات نفسية أن الأشخاص الذين يتشبثون بقيمة أو اثنين على حساب بقية القيم الأخرى، يُخلون بتوازنهم النفسي، فإدمان العمل قد يأتي على الذات والآخرين، وفي الرؤية الإسلامية فإن تضخيم جانب تعبدي على بقية الجوانب يخل بتوازن المسلم النفسي والديني.
والحقيقة أن التوازن لا يدوم، وهو ما يعني أن الإنسان يحتاج إلى مجاهدة لتحصيله، وربما هذا ما أشار إليه القرآن في سورة المعارج في قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج).
والهلع والجزع هما قمة عدم الاتزان النفسي، وفي اللغة فالهلع: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه، وذكر بعض المفسرين أن الهلوع هو الذي إذا أصابه الشر أظهر شدة الجزع، وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس، وجاء في تفسير «الظلال»: «يبدو الإيمان بالله مسألة ضخمة في حياة الإنسان، لا كلمة تقال باللسان، ولا شعائر تعبدية تقام، إنه حالة نفس ومنهج حياة، وتصور كامل للقيم والأحداث والأحوال، وحين يصبح القلب خاوياً من هذا المقوم فإنه يتأرجح ويهتز وتتناوبه الرياح كالريشة! ويبيت في قلق وخوف دائم، سواء أصابه الشر فجزع، أم أصابه الخير فمنع».