رغم التاريخ الطويل الذي يجمع الفن بالحضارة الإسلامية، ورغم ما قدمته الحركات الإسلامية من تجارب فنية متنوعة بتنوع تلك الحركات ومنتشرة بقدر انتشارها عبر العالم بأسره، فإن تلك التجارب لم تخضع بعد للدراسة الكافية والتقييم الشامل من كافة النواحي، فغياب الاحترافية والمنهجية لدى الحركات الإسلامية بشأن تضمين الفن في بنية تلك الحركات باعتباره عنصراً رئيساً أنتج تجارب فنية غير كاملة وغير قابلة للتطور بشكل تقدمي وتصاعدي بمرور الوقت، وشكّل مجموعة من التجارب المتناثرة والمبتسرة من الفنون المنضوية تحت لواء الحركات الإسلامية هنا وهناك.
وقد تضافرت مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأسباب لتُسهم في عدم اكتمال ونضج الفن الإسلامي، بعضها ينتمي إلى الحركات الإسلامية نفسها من داخلها، والبعض الآخر يرجع إلى أسباب خارجة عن إرادة تلك الحركات عبر حملات إعلامية مُمنهجة رافضة لهذا الفن ابتداء، ومجتمع مُتشكك في إمكان أسلمة الفن على الإطلاق باعتبار الإسلام والفن ضدين متنافرين لا يجتمعان أبداً؛ ومن ثم فإن الأصل هو الفصل بينهما.
تجارب لم يكتب لها النضج
يعد من أهم أسباب غياب الفن الإسلامي عن الساحة الراهنة أن تلك الفنون بالأساس على ندرتها لم يكتب لها النضج بفعل فاعل، فهذه التجارب الفنية الإسلامية لم تحظ مُطلقاً بدراسات كافية لا من حيث محتواها الفني ومضامين تجاربها الفنية، ولا من حيث إسهامها تاريخياً في تطور الفن بشكل عام في كل دولة من الدول التي ظهرت بها تلك التجارب، وقد عمل على تعميق ذلك التجاهل المتعمد مناوأة النظم الحاكمة للحركات الإسلامية بشكل عام؛ إذ أصبح النهج السائد هو التعتيم على تلك التجارب، وتشويهها بحملات إعلامية مضادة، والترويج للتهمة الجاهزة بأن الحركات الإسلامية تعادي الفن وترفضه ابتداء، مما نتج عنه ضياع تلك التجارب الفنية وتراثها، اللهم إلا الجانب الإنشادي الذي لا تزال تلك الحركات مستمسكة بزمامه تتناقله جيلاً بعد جيل.
العامل الآخر الذي قد أسهم بشكل كبير في تراجع دور الفن وطي صفحة التجارب الفنية للحركات الإسلامية في سائر أنحاء العالم العربي ووأد تلك التجربة في مهدها هو ما يسمى بفترة المحنة أو السجون، إذ تعرضت الحركات الإسلامية على مر العصور وخاصة في الستينيات إلى تنكيل كبير من الأنظمة الحاكمة، فبينما يتطلب الفن والإبداع مناخاً من الحرية والرخاء يدعم نضجه وتطوره، فقد أتت المحن لتنشئ حقبة الخواء الفني؛ إذ اقتصرت تلك المرحلة على أدب السجون وأناشيد المحن، ولم يتسن لأبناء الحركات الإسلامية من فرصة حقيقية لالتقاط الأنفاس ومواصلة رحلتهم الفنية التي بدأت في الأربعينيات والخمسينيات.
كذلك، فإن الصحوة الإسلامية منذ مطلع السبعينيات وظهور الوهابية التي تشددت في رفض كل ما هو بدعي ودخيل على الإسلام في صورته النقية الخالصة وبالغت في العداء للفن بكافة أشكاله قد ألقت بظلالها على الإسلاميين في سائر أنحاء العالم العربي، فلم يعد للفن مجال في ساحة الحركات الإسلامية، وانشغل أبناء تلك الحركات منذ ذلك فصاعداً بدخول معترك السياسة والمجتمع بأساليب محافظة إلى حد بعيد، ولم يفطنوا لأهمية الفنون إلا مؤخراً جداً؛ وبالتالي لا تزال تجاربهم غير ناضجة بشكل كافٍ ناهيك عن عدم توافر المناخ العام الذي يسمح بنضوجها وتطورها.
ويأتي العامل الأهم في وأد تجربة الفن الإسلامي هو النهج الذي انتهجته الأنظمة الاستبدادية التي ورثت الحُكم الاستعماري، إذ عمدت تلك الأنظمة بشكل دائم إلى مصادرة المجال العام والتكميم المُمنهج للأفواه، وسد كافة القنوات الشرعية للتعبير عن الرأي ومصادرة حرية التعبير، ولما كان الفن من أهم أشكال التعبير عن الرأي، فقد وجدت الحركات الإسلامية نفسها في جو خانق غير مسموح لها فيه بتقديم رؤيتها الخاصة لا بالطرق السياسية ولا الاجتماعية ولا الفنية.
ماذا خسر الفن بغياب الفنون الإسلامية؟
لا شك أن غياب فن إسلامي حقيقي نابع من إيمان صادق بأهمية الفنون وأدوارها للمجتمع قد أسهم في خسائر كبيرة في مضمار الفن بشكل عام، فقد شهد العالم منذ ظهور الحركات الإسلامية توجهاً تدريجياً نحو نكوص الخصوصيات الثقافية لمصلحة سيادة النموذج الغربي، الذي أصبح بمثابة النموذج الثقافي والسياسي والاقتصادي الأوحد منذ انتهاء الحرب الباردة، وبفعل العولمة أضحى مفروضاً على الجميع رغم مساوئه الجمة، وتم استخدام الفن لتحقيق سيطرة ثقافية غربية على العالم بأسره.
والفن اليوم قد اصطبغ بصبغته الغربية الخالصة التي تخاطب الغرائز وتحث على الرذائل وتشجع الاستهلاكية والعدمية، وتروج لقضايا الشذوذ والمثلية والجريمة والمخدرات، ولم يعد في عالم اليوم أي منافس حقيقي لذلك الفن الذي سيطر على الساحة عالمياً.
لذلك، فإن حاجتنا اليوم إلى فن إسلامي حقيقي لم تعد ترفاً شكلياً أو مزايدات نظرية، بل هي حاجة ماسة إلى بديل حقيقي وقوي يُدرك أهمية الفن ويُقدر رسالته الجمالية والحسية ومكامن قوته في التغيير للأفضل والتعبير عن الهوية الثقافية والحضارية، ولا أنسب لتلك المهمة من الحركات الإسلامية التي تحمل لواء الدعوة، وتأخذ على عاتقها مهمة استعادة الحُكم الإسلامي، ومن ثم عليها استلهام مقومات نهضة ذلك الحُكم التي سادت عبر عصور الحضارة الإسلامية ومن أهمها مكون الفن وتسخيره لتلك الغاية.
والطريق نحو تجربة فنية حقيقية لا يتأتى من دون تبنٍّ مُمنهج للعنصر الفني وإدماجه تنظيمياً –وفكرياً– في بنية الحركات الإسلامية، إذ إن ذلك الدمج المُمنهج يسهم بشكل قوي وفعال في استخدام الفنون بالشكل الأمثل، وتقديم تجارب فنية قابلة للتطور والنضج بمرور الوقت حتى وإن بدأت بشكل متواضع.
ومن ناحية ثانية، فإن الحركات الإسلامية في سعيها لتشكيل تجارب فنية حقيقية عليها الانفتاح الواعي والبنَّاء على سائر الفنون وأنواعها، وتبني تعلمها من أربابها من المُحترفين، بل واستيعاب المحترفين في سائر أنواع الفنون مثلما عمد مسرح حسن البنا في الأربعينيات لضم ممثلين غير منتمين تنظيمياً للجماعة في سبيل إنجاح التجربة وتحقيق مآربها بالشكل الأمثل، إذ يعمل ذلك على رفع مستوى الفنون بشكل عام ونقل التجارب الفنية بشكل احترافي لأبناء الحركات الإسلامية ومن ثم تقديم تجربتهم الخاصة الناضجة والمُحترفة.
ويتطلب ذلك كله ابتداء فهماً متعمقاً لأهمية الفن وأهميته ودوره في نقل الرسائل وبث القيم والنهوض بالمُجتمعات وتزكية النفوس وتقدير الجمال، ليتمكن أبناء الحركات الإسلامية من تكوين تجارب فنية حقيقية مؤمنة بدور الفن وقادرة على تطويعه لخدمة الدعوة الإسلامية.
________________________________