بقلم- علي العجمي:
قبل أن أخوض في موضوع، أو أن أشير إلى حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أن فضيلة العلاَّمة د. يوسف القرضاوي، صاحب يد طولي في ترشيد الجيل الحالي للصحوة الإسلامية، ومؤلفاته في هذا المضمار خير شاهد على ما نقول، والتعريف بفضله وإنجازاته يعتبر من نافلة القول، إذ المعروف لا يعرف.
فالدكتور القرضاوي، حفظه الله ونفعنا بعلمه، يعتبر من العلماء القلائل الذين ضربوا بسهام متجذرة ووفيرة في فنون العلوم الشرعية المختلفة، إضافة إلى جهوده الحركية والدعوية، وتاريخه الجهادي الطويل، مما يذكرنا بجهود العلماء الموسوعيين السابقين، وهذه الأمور قلما تجتمع لأحد في عصرنا الحاضر، كما أن فضيلة شيخنا يتميز كثيراً في كتاباته بأنه ينطلق من مقاصد الشريعة العامة التي تقدم درء المفاسد على جلب المصالح، واحتمال أدنى المضرتين بتفويت أشدهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحقيق أعلاهما، متأسياً في ذلك بسلفه الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات”، والإمام العز بن عبدالسلام في مؤلفه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، وغيرهما من الأئمة، ولذلك فإن كتابات شيخنا الفاضل وفتاواه تجنح إلى الاعتدال والوسطية في الطرح، والمنهجية العلمية في التناول، والنظر إلى المصالح والمفاسد ضمن إطار الشريعة العام الذي جاء للحفاظ على الضرورات الخمس المعروفة، وهي: الدين والعقل والنفس والمال والعرض، مما جعل فضيلته متميزاً في طرحه ذا قبول واسع في الأوساط العلمية، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً.
غير أننا تعلمنا من مدرسة شيخنا ومن قبله سلفه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، رحمهما الله، وسلفنا الصالح أن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن كما قيل: “اعرف الحق تعرف أهله”، وما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذا المبدأ قد أصَّله الإمام مالك، رحمه الله، وسار عليه سلف الأمة بلا تعصب مذموم، أو تقليد أعمى.
وبعد هذه المقدمة البسيطة، أجدني مهيأ للدخول للموضوع الذي نحن بصدد التعليق عليه، وهو ما نشرته مجلتنا “المجتمع” في إطار عرضها لكتاب فضيلة شيخنا د. يوسف القرضاوي المعنون بـ “فقه الدولة في الإسلام”، في العددين (1294)، و(1295)، الذي تطرق فيه إلى قضايا تشغل بال المسلم المعاصر بوجه عام، وشباب الصحوة والدعاة بشكل خاص، مثل: التعددية السياسية، وحرية تكوين الأحزاب، وحقوق المرأة السياسية وغيرها من القضايا.
والذي استوقفني منها هو قضية المشاركة السياسية للمرأة في البرلمان؛ ترشيحاً وانتخاباً، ورغم أن مثل هذه المسألة اجتهادية طارئة لا نص فيها، فإنني أحببت إيراد بعض التعليقات على استشهادات الشيخ الفاضل، حفظه الله، إيماناً مني بأن في الحوار العلمي الهادئ متسعاً لطرح مثل هذه القضية، علماً بأن هذه النقاط ليست بحثاً لهذه المسألة التي تحتاج إلى آلة قد لا أملكها، وإنما هي مناقشة لأدلة الشيخ التي ساقها، بارك الله في علمه ونفعنا به.
فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: يرى الشيخ في جملة رده على آراء المانعين أن قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب: 33) خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن نساء النبي لهن من الحرمة وعليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولكن هذه النظرة ليست محل تسليم، إذ الأصل في الخطاب القرآني أن يكون للجميع، إلا ما قام الدليل على استثنائه، وإلا فإننا إذا قرأنا قوله تعالى: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب: 32)، فهل نقول: إن تحريم الخضوع بالقول الخاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يحل لما سواهن من سائر النساء أن يلن بالقول؟ وكذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التحريم: 1)، إذ النهي عن تحريم ما أحل الله ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام لكل مكلف ذكراً كان أم أنثى.
وأما خطاب الله عز وجل نساء النبي في الآية السابقة ليكون ذلك أبلغ في الزجر، إذ إن العادة قد جرت أنك إذا زجرت عظيماً، أو ذا منزلة عن شيء ما كان ذلك أولى أن ينزجر مَن سواه، وقد نهى الله أمهات المؤمنين على اللين في القول، مع أنهن أعف النساء على الإطلاق، وأبعدهن عن الاتصاف بتلك الصفة، ليكون ذلك زجراً لغيرهن من باب أولى، وقد طبق الخليفة عمر رضي الله عنه هذا المنهج القرآني في الأمر والنهي، فكان إذا أراد أن ينهى الناس عن أمر بدأ بأهله، وأولاده، فجمعهم ونهاهم، ثم يخبرهم أنه سيضاعف لهم العقوبة من دون الناس إذا قارفوا هذا الأمر الذي نهى الناس عنه، فكان هذا الموقف تفسيراً عملياً للمنهج القرآني في تقويم النفوس، وجعلها تستقيم على الأوامر والنواهي.
ثانياً: يستشهد فضيلته “بخروج أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، وشهودها معركة “الجمل” استجابة لما تراه واجباً دينياً عليها وهو القصاص من قتلة عثمان، وإن أخطأت التقدير فيما صنعت”.
غير أن النساء مهما بلغن من ذكاء ونضج فلسن كعائشة، رضي الله عنها، رجاحة وعلماً وفضلاً:
ولو أن النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال
ودورها في الخروج بوصفها لا بشخصها، بمعنى أن خروجها في ذلك لكونها أم المؤمنين، وأثرها لا ينكر في رفع معنويات جيش طلحة، والزبير، وإدراك ثأرهم من قتلة عثمان، حيث كان معنوياً، وليس اشتراكاً فعلياً في قتال.
وقد كانت، رضي الله عنها، مستترة في هودجها على جمل سميت هذه المعركة بمعركة “الجمل”، وكانت عام 36هـ، فلا أعتقد أن هذا ينهض دليلاً صريحاً يحسم النزاع في مسألة دخول المرأة لمعترك الحياة البرلمانية.
وكذلك يرى، حفظه الله، أن “المرأة قد خرجت من بيتها بالفعل، وذهبت إلى المدرسة والجامعة، وعملت في مجالات الحياة المختلفة، دون تكبر من أحد، مما يعتبره الكثيرون إجماعاً على مشروعية عمل المرأة خارج البيت بشروطه”، ولا يلزم من مشروعية خروج المرأة من البيت أن يكون ذلك دليلاً على مشروعية دخولها البرلمان كعضوة فيه، فنحن نتمنى أن نرى شقيقة الرجال معلمة، وأستاذة في الجامعة، وطبيبة وقبل كل ذلك مربية؛ لأن ذلك كله أولى من إقحامها في عمل سياسي شاق يخالف استعدادها الفطري والتكويني، ويخالف طبيعتها البشرية، والخصائص الأنثوية المركبة فيها.
ثالثاً: يقول فضيلته: “الحاجة تقتضي من المسلمات أن يدخلن معركة الانتخابات في مواجهة المتحللات والعلمانيات اللائي يزعمن قيادة العمل النسائي”، ومواجهة العلمانيات لا يلزم منها ولا يشترط فيها الانخراط في العمل السياسي، ولكن هناك الجمعيات النسائية، والاتحادات الطلابية، وكلها منابر مسموعة ومؤثرة إعلامياً واجتماعياً، ولها من الوسائل المشروعة ما يمكّن المسلمة من التصدي للمتحللات دون الاضطرار لخوض العمل البرلماني الشاق، إذاً هذه الحاجة متحققة في غير هذه الصورة، وقد تكون بشكل أفضل، فكم من منتديات نسائية وطلابية قالت فيها المرأة المسلمة كلمتها، وأوصلت دعوتها بلا حاجة إلى دخول المجالس النيابية، فلا تلازم مطرداً بين الحاجة والممارسة النيابية للمرأة.
رابعاً: يرى فضيلته أن “حبس المرأة في البيت لم يعرف إلا عقوبة لمن ارتكبت الفاحشة”، واستشهد بقوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (النساء: 15)، ومن يقول بأن عدم ترشيح المرأة للمجالس النيابية يعد حبساً لها؟ بل إن المصلحة تقتضي خروجها للحاجة، وهذه الحاجة تقدر بحدود لا تتسع لها ضرورات العمل النيابي الذي يتطلب منها أن يكون تواجدها في الخارج أكثر من تواجدها في بيتها كما هو حال الرجل، بل إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: “صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها” (ص.ج.ص. رقم 3833)، يشعر بأن الأصل في المرأة أن تمكث في بيتها، فإن ذلك أفضل لها، بل إن صلاتها في دارها أفضل من صلاتها في المسجد، مع أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، إلا أن الإسلام قد فوت هذه المصلحة في صلاة الجماعة بالنسبة للمرأة درءاً للمفسدة المحتملة في خروجها، كما لا يخفى على شيخنا، حفظه لله، ثم إن المرأة قد تجلس في بيتها في حالة الإحداد على الزوج، وفي هذه الحالة لا يعتبر جلوسها في البيت حبساً لها، بل هو صيانة لها وحفظاً لحق زوجها المتوفى، وهذا المكوث في البيت خير من خروجها لأماكن تناطح فيها الرجال وتكون فيها عرضة لمفاسد محتملة الوقوع نتيجة انسياقها وراء أمور متناقضة مع طبيعتها التي جبلها الله عليها.
خامساً: يرى شيخنا الفاضل “الآية الكريمة التي ذكرت قوامة الرجل على المرأة -يريد قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء) (النساء: 34) إنما قررت ذلك في الحياة الزوجية، فالرجل هو رب الأسرة، وهو المسؤول عنها والممنوع هو الولاية العامة للمرأة على الرجال، أي رئاسة الدولة، أما بعض الأمر فلا مانع أن يكون للمرأة ولاية فيه، مثل ولاية الفتوى أو الاجتهاد أو التعليم، أو الإدارة ونحوها، وهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع، وقد مارسته على توالي العصور”.
والآية وإن كانت كذلك، فإن الممارسة النيابية نوع من الولاية، وهي أشد مشقة من القوامة، فإذا كانت القوامة التي هي داخل نطاق المنزل لا تناسب طبيعة المرأة، فما بالنا بما هو أعظم مسؤولية من ذلك؛ وهو تجشم صعاب العمل النيابي؟ وإذا استطاعت المرأة تجشم هذا المركب الصعب، فإن ذلك سيكون على حساب طبيعتها الجبلية التي ستضطر راغمة للخروج عنها مخالفة بذلك دواعي فطرتها الإنسانية التي لا تقر هذا التطفل الأنثوي على عمل أنيط به غيرها، بخلاف الفتوى أو الاجتهاد أو التعليم، فقد كانت عائشة، رضي الله عنها، تُستفتى من قِبَل الصحابة؛ لأن العلم ليس حكراً على الرجال وحدهم، بل هو مما يشترك في ضرورة تعلمه الرجال والنساء على حد سواء.
ثم ننتقل إلى جانب آخر يقول فيه شيخنا، حفظه الله: “إن النصيحة في الدين واجبة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهذه النصيحة ليست مقصورة على الرجال وحدهم، وما دام من حق المرأة أن تنصح وتشير بما ترى من الصواب، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا يوجد دليل شرعي يمنع من عضويتها في مجلس يقوم بهذه المهمة”، ولكن هل من تلازم بين النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودخول المرأة للمجلس النيابي؟ بمعنى هل من ضرورة النصيحة أن تمارس المرأة العمل البرلماني؟ ثم إن هذا الواجب تترتب عليه مفاسد لا يمكن تجاهلها، والواجب إذا ترتب عليه مفسدة، فإن المصلحة تقتضي تأخيره إلى حين زوال هذه المفسدة، فكيف إذا ترتب عليه بعض المفاسد مثل الاختلاط، وإهمال ما هو أهم وأجدر بالرعاية، كالبيت والأولاد والزوج والتعليم، وقد تضطر للسفر للخارج كثيراً لمهام العمل النيابي، وكل هذه الأمور لا يخفى ما يترتب عليها من مفاسد يقدم درؤها على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يمكن أن يتحقق بغير هذه الصورة.
ويدعم الشيخ رأيه بذكر نماذج من النساء قمن بأدوار بطولية في عهد النبوة كخديجة، وسمية، رضي الله عنهما، ويجاب عن ذلك بأن دور المرأة في عصور الإسلام الأولى أشهر أن يذكر، إلا أن ذلك لا مدخل له ولا علاقة بمشاركتها السياسية، وإذا كانت المرأة إضافة إلى أعمالها في الجيش الإسلامي كمعالجة الجرحى، وسقي المقاتلين قد حملت السلاح في بعض الوقت، فإن ذلك الدور كان بالتبعية لا كمهمة أساسية لها في القتال، كأم عمارة مثلاً التي قاتلت قتال الأبطال في “أُحد”، و”اليمامة”، وأثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ثناءً عظيماً، غير أن هذه كانت مواقف فردية حمدها عليها الشرع دون أن يكلفها بها، كما كلف الرجال، وقد نقول: إن ذلك كان من باب أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وإلا لكانت النساء مكلفات بالجهاد كالرجال، مع العلم أنه في بداية تشريع الجهاد، كان المسلمون قلة، وكانوا يحتاجون إلى الكثرة العددية، فلو كان استعداد المرأة، كما هو عند الرجل، لكانت الحاجة داعية إلى تكليفها هي الأخرى بالقتال جنباً إلى جنب مع الرجل، إلا أن الشرع راعى طبيعتها، وأناط بها ما يتوافق معها من الأعمال، كالعناية بالجرحى والمرضى والسقاية للعطشى، وعلى ذلك كانت خديجة، رضي الله عنها، نعم الزوجة الصابرة المعينة لزوجها لتحمل أعباء الرسالة، بالإضافة إلى دور عائشة، رضي الله عنها، العلمي الرائد، علاوة على دورها الذي قامت به من قبل في السقاية في معركة “أُحد”، وكذلك كانت رفيدة الأسلمية التي عالجت سعد بن معاذ، رضي الله عنه، في الخندق في خيمة داخل المسجد، فهذا هو دور المرأة الحقيقي، وهو لا يقل أهمية عن دور الرجل، غير أنه لا يخرجها عن طبيعتها، بل يتناسب مع خصائصها التكوينية، ولا أحسب طبيعة الممارسة النيابية تمتّ إلى ذلك بصلة، خصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك أن المرأة قد تباشرها ظروف الحمل والولادة، وقد تضطر للاحتجاب عن الناس حداداً على زوجها، فأين هي أمام ذلك من العمل البرلماني، ومهامه الكثيرة المتعبة، وهذا كله ليس تقليلاً من دور المرأة الرائد الذي رأينا طرفاً منه، فيما سبق بقدر ما هو تمييز لمكانتها وبيان لدورها الذي تستطيع أن تقوم به بما يناسب حشمتها ووقارها.
هذه بعض التعليقات والملاحظات التي أردت إيرادها تعقيباً على كلام الشيخ د. يوسف القرضاوي، حفظه الله، والذي أسأل الله عز وجل أن ينفعنا بعلمه، وأن ينفعنا بما نكتب وما نقرأ، والله من وراء القصد.
______________________
العدد (1297)، غرة المحرم 1419هـ/ 28 أبريل 1998م، ص46-47.