إن نظام الزوجية والثنائية سار في الكون كله جماده ونباته وحيوانه، والإنسان ليس خارجًا عن هذا النظام؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ (الذاريات: 49).
فاستمرار البشرية، ونشوء المجتمعات، وقيام الدول لازم من لوازم هذه الزوجية بين شطري الإنسانية؛ الذكر والأنثى.
هذا هو النظام الرباني الموضوع لصلاح البشرية واستمراريتها، لكن شياطين الإنس والجن لا يعجبهم هذا النظام الرباني، ويسعون إلى إفساد البشرية بضرب أساسات تلك العلاقة الزوجية بين الذكر والأنثى.
فإن الشياطين ليفخرون أمام إبليس بمحاولاتهم المستميتة لهدم البيوت وفصم عراها؛ فعن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: «إذا أصبح إبليس بث جنوده، فيقول: من أضل اليوم مسلمًا ألبسته التاج؟ قال: فيخرج هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته، فيقول: أوشك أن يتزوج.. ويجيء فيقول: لم أزل به حتى زنى، فيقول: أنت أنت»(1).
وقد تبرأ النبي المصطفى من شياطين الإنس الذين يسعون لإفساد العلاقة بين الزوجين؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «من أفسد امرأة على زوجها فليس منا»(2).
ولم ينظر الإسلام للمرأة نظرة دونية ولم يحتقرها أو يزدرها، بل كرمها ورفع شأنها؛ قال ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»(3)، أي: نظائرهم وأمثالهم في الخَلْق والتكليف والعلم والطباع والأحكام إلا ما خُصَّ(4).
لكنه في الوقت نفسه لم يتجاهل الخصائص التي انفردت بها المرأة عن الرجل وتمايزت بها عنه؛ فقال تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى﴾ (آل عمران: 36).
ثم إن الله تعالى لم يذكر أن البنوة أو الأبوة آية من آياته، وإن كانتا كذلك، فلم يقل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أولادًا، وإنما جعل الزواج هو الآية، هو السكن.
فالمرأة التي ترى أن سكنها النفسي في بيت أبيها وأمها بلا زواج هي مخطئة؛ فالسكن النفسي في زواجها.
وقديمًا كان للزوج عند زوجته مكانة لا يضاهيها قريب لها مهما كانت درجة قرابته؛ فقد مات لِحمنة بنت جحش في غزوة «أُحد» الأخ والخال والزوج؛ فترحمت على أخيها، واسترجعت على خالها حمزة بن عبدالمطلب، وحزنت وولولت وصرخت على زوجها مصعب، فقال النبي ﷺ: «إِنَّ لِلزَّوْجِ مِنَ الْمَرْأَةِ لَشُعْبَةً مَا هِيَ لِشَيْءٍ»(5)؛ أي: «قدر عظيم من المودة وشدة اللصوق؛ إذ «الشعبة»: الطائفة من الشيء، وغصن الشجر المتفرع عنها»(6)، أي: ليس مثلها لقريب ولا لغيره.
وقال أيضًا النبي ﷺ في رواية أخرى: «إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ»؛ لِمَا رَأَى مِنْ صَبْرِهَا عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا، وَصِيَاحِهَا عَلَى زَوْجِهَا(7).
وفي الحداد كانت أكبر مدة للزوج، وهي فترة لا مثيل لها في أبٍ أو ابنٍ؛ فقال النبي ﷺ: «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ؛ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»(8).
فبعد ثلاث لو طلبها زوجها لنفسه أجابته وتزينت وخلعت ما كان عليها من ملابس الحداد، حتى وإن بقي الحزن في قلبها.
والأسرة مؤسسة مقدسة ينشأ بين طرفيها ميثاق غليظ، وهذه المؤسسة لا بد لها من قائد يعطي الحقوق ويتعامل بالمعروف ولا يظلم، وهذا القائد هو الزوج؛ فالرجولة في البيت أن يكون قويًّا في غير قهر وعسف، رقيقًا في غير لين وضعف، وويل للأسرة والمجتمع من الرجل الطيب الضعيف الذي تتم السيطرة عليه من قِبل الآخرين ويقودونه فيميل معهم حيث مالوا، ولا يتخذ موقفًا ضد ما يكره منهم.
والرجل الحق له على الزوجة حق الطاعة، ومن تفعل ذلك هي خير النساء؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلاَ تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ»(9).
وقد نشأت في الغرب حركات وفلسفات تدعو لإعطاء المرأة حقوقها المهضومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ودعوا للمساواة التامة بينها وبين الرجل.
ثم تسربت تلك الدعوات إلى بلاد المسلمين حتى حدثت خلخلة شديدة في بنيان الأسر؛ فأن تأخذ المرأة حقها ولا يظلمها ذووها ومجتمعها فهذا يدعو إليه الإسلام، لكن أن تتمرد المرأة على طبيعتها ووظيفتها التي خُلقت من أجلها فهذا إفساد لنظام الزوجية الكوني.
ثم إن الذين دعوا للمساواة بين المرأة والرجل ظلموا المرأة؛ فلا هي لحقت تمامًا بالرجل، ولا هي بقيت أنثى كاملة الأنوثة.
وكان مدخلهم لذلك خدعة إثبات الذات؛ فأخرجوها من بيتها للعمل، والمرأة طوال تاريخها وهي تعاون زوجها وتكون يدها بيده في تثبيت دعائم الأسرة، وكان عمل المرأة فيما قبل لمعاونة زوجها على صروف الحياة ويساهم في بناء أسرة قوية، أما عمل المرأة اليوم فهو لإثبات ذاتها واستغنائها عن غيرها ولو كان زوجها، فيكون العمل نواة هدم البيت وليس للحفاظ عليه.
وأصبحت المرأة الحديثة نتيجة للدعوات النسوية تنظر إلى المال باعتباره وسيلة لاستقلالها عن هيمنة الرجال وتأمين مستقبلها، وهي نظرة أثبتت فشلها، وتسببت في زيادة معدل العنوسة، وارتفاع نسب الطلاق.
وقديمًا كان الكثير من النساء ثريات، وعشن بلا مناطحة أو مشاكسة للأزواج، ومن أعظم الأمثلة على هؤلاء أمنا خديجة التي لم يكن غناها وسيلة لتعميق الهوة بينها وبين زوجها صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان غناها عونًا له في دعوته ورسالته.
وللأسف أصبحت فكرة «الفيمنست» الهدَّامة للأسر لها وجود بين الإسلاميات، ورحن يبحثن في الدين عما يوافق أهواءهن، ويشحن النظر عن النصوص الأخرى التي لا توافق هواهن.
والتعاليم والأحكام كلٌّ لا يتجزأ؛ فالانتقائية لا تنصر المرأة ولا تساعدها على نيل حقوقها، والدليل ما نراه من الأرقام المفزعة من نسب الطلاق في عالمنا العربي.
فالبحث عن الحقوق يقابله إعطاء الواجبات المنوطة بها، واتباع ناعقي الغرب لم يصلح مجتمعاتنا، بل زاد في تفسخها وانحلالها.
_______________________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه، ح(6189)، وصحح إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط.
(2) أخرجه أحمد في مسنده، ح(9157)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: «حديث صحيح، وهذا إسناد قوي، رجاله رجال الصحيح».
(3) أخرجه أبو داود في «الطهارة»، باب: «فِي الرَّجُلِ يَجِدُ الْبِلَّةَ فِي مَنَامِهِ»، ح(236)، وقد حسَّنه الألباني.
(4) انظر: فتح الباري، (1/ 254)، وعون المعبود، (1/ 275)، وتنوير الحوالك، ص(56)، وعمدة القاري، (3/ 235).
(5) أخرجه ابن ماجه في «الجنائز»، باب: «مَا جَاءَ فِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ»، ح(1590)، وقد ضعَّفه الألباني.
(6) فيض القدير، (2/ 631) باختصار.
(7) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة»، (3/ 301).
(8) أخرجه البخاري في «الجنائز»، باب: «إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا»، ح(1280).
(9) أخرجه النسائي في «النكاح»، باب: «أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ»، ح(3231)، وقال الألباني: حسن صحيح.