يقضي الشيخ الكبير والمفكّر البارز والمناضل الجسور الأستاذ راشد الغنوشي هذه الأيام وراء قضبان الظلم والاستبداد، وليكون الشيخ ضحية تصفيات ولعبة سياسيّة عديمة الجدوى، فغدا جسده في السجون، ولكنه بمكانته وتأثيره هو قلبٌ عامر بالحق والإيمان، وفكرٌ نيّر لا تحجبه المسافات ولا الحدود.
يعتبر الغنوشي من كبار المفكرين والمثقفين الذين ينتمون للأسرة العربيّة والإسلاميّة والإنسانيّة، الذين دافعوا عن القيم الإنسانية، كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتعاقد بين الحاكم والمحكوم، وحقوق الإنسان بنوعيه الذكر والأنثى، وقدم هو وإخوانه من أصحاب الفكر النيّر والحر تضحيات جسام في هذا الطريق الطويل والشاق؛ من سجون ومنافٍ ومطاردات واتهامات، ومحاولات لا تكل ولا تمل لتشويه مسيرته، واغتياله معنوياً، وإبعاده عن الحياة السياسية التونسية والعربية والإسلامية على مدار عقود مضت.
وقد عرفت أستاذي وشيخي راشد الغنوشي (فرج الله عنه) منذ بدء مسيرتي العلمية، وبدايات اهتمامي بواقع الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، وأول ما سمعت عنه كنت في السجن أيام حكم العقيد معمّر القذافي في ليبيا، وعن نشاطه ودعوته، واعتقاله، وما تعرض له من الابتلاء منذ عهد الحبيب بورقيبة.
وعندما خرجت من السجن عام 1988م، وهاجرت من ليبيا، فإني التقيت بالشيخ الغنوشي في مدينة جدّة بالسعودية في ضيافة الأستاذ فتحي الخولي رحمه الله، وقد كنت شاباً في مقتبل العمر؛ سلّمت عليه، وسمعت حديثه الشيّق وأفكاره النافعة، ولا تزال ذاكرتي تحفظ ابتسامته وجمال طلته في ذلك اللقاء، إذ رأيته بشنّتة (شاشيّته) الحمراء، وملابسه التونسية التقليديّة مراتٍ ومرات، ومنذ ذلك الوقت بدأت بمتابعة جادة لكتابته ومقالاته، وتكرر اللقاء به في مؤتمرات عديدة، وتجمعات دعوية فريدة، ولازمته في لقاءات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكنت كثير السؤال له، وكانت علاقتي به كعلاقة التلميذ المجتهد بأستاذه القدوة، الذي أتعلم بكل لقاء به من خُلقه الرفيع، وفكره العميق، وتجاربه الحياتية الواسعة.
والجدير بالذكر، أنه خلال فترة الحوارات مع السجناء السياسيّين في سجون ليبيا (فترة ما يعرف بليبيا الغد، التي أشرف عليها د. سيف الإسلام)، كان الشيخ الغنوشي مشجعاً للطرفين، وكان نعْم الناصح والصادق في نصحه وإرشاده، وما التقيت بالشيخ في مؤتمر أو مناسبة أو في بيته أو مقر حركة النهضة إلا استفدت منه الكثير.
أثرى الشيخ الغنوشي الفكر السياسي الإسلامي والإنساني بكتبه النافعة ومواقفه المتّزنة وتقديمه الصالح العام على الخاص، وإخلاصه للإسلام العظيم وحضارته وثقافته وهويته ومنافحته عنه في المحافل الدولية، وقد كان حريصاً على أن تبقى تونس (العزيزة) شمعة مضيئة في قلب «الربيع العربي»، وأن تكون نموذجاً في الديمقراطية والتعددية والعدالة، وكان يرى أن الخطر الأعظم على الإسلام يتمثل في غياب الحريات، وعدم توفر ضمانات كافية لحرية الرأي والضمير، وحرية الاعتقاد، وحرية التنقل، وسائر الحريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة والعامة.
كما رفض الأستاذ الغنوشي العنف بكل أصنافه، واتخذ الحوار سبيلاً وحيداً لحل الخلافات، ومن أقواله في ذلك: نحن نتحاور حوارات جادة، وسلاحنا في ذلك الكلمات، وليس الرصاص.
ولقد أجهد نفسه ومن معه من تلاميذه وأنصار حركته وحلفاؤه المدنيون من أبناء الشعب التونسي على تقديم نموذج سلمي للأمة والإنسانية في التغيير والتأسيس الديمقراطي المتميز، وعندما تطالع كتابه «الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام»، حيث تجد الشيخ متمكناً من المادة التي طرحها، وأجاب عن الكثير من الأسئلة التي تشغل المثقفين على المستوى الإنساني والإسلامي والعربي، فبين في كتابه: مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام، وضرورة السلطة ومدنيتها، ومصدر الشرعية في الدولة الإسلامية، وضمانات عدم الجور وكيفية مقاومته عند حصوله في نظام حكم إسلامي.
وتحدث عن الوسطية في علاقة الدين بالسياسة، وعن طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة، وعن جدلية الوحدة والاختلاف والتعددية في الإسلام والسياسة، وعن الشورى والتعددية في تجربة المسلمين؛ تحدث بشفافية، وبعلم وإنصاف، وشجاعة أديبة رفيعة، ملتزماً بالأخلاق الكريمة في نقاشاته وحواراه مع مخالفيه، وطرق الأبواب المغلقة، ووازن بين الأفكار والمذاهب، واستدل بالقرآن الكريم والسُّنة المطهرة، ونماذج من التاريخ.
وأبدع في حديثه عن الحريات وحقوق الإنسان في الإسلام، وبيَّن بأن الحرية مقصد من مقاصد الشريعة، وناقش حرية العقيدة ومسألة الرد، والمرأة والحرية، والحرية والاقتصاد، والحرية من خلال المجتمع المدني، وبين مفهوم الحرية وحقوق الإنسان في الغرب، والتصور الإسلامي للحرية وحقوق الإنسان، وأوضح بأن العقيدة أساس حقوق الإنسان في الإسلام، وتكلم عن الفكر الإسلامي الحديث، ومسألة حقوق الإنسان، والإطار العام لحقوق الإنسان في الإسلام، وحرية المعتقد ودستور دولة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
قدم شيخنا رؤية عصرية جمعت بين الأصالة والمعاصَرَة، وبين المثال والواقع، وبين المادة والروح وبين الدنيا والآخرة، ممزوجة بالحضارة الإسلامية والثقافة الإنسانية والعقل النير والمنطق السليم والوجدان الحي المليء بالأشواق والارتباط الروحي بالإسلام العظيم، وتصدى بكل شجاعة للعنف وقدم دراسة في الأسباب والعلاج.
وفي كتابه «المرأة بين القرآن وواقع المسلمين»، فقد أفاد وأجاد، وقدم للمرأة على المستوى الإنساني رؤية الإسلام للمرأة، وقد ختم كتابه بقوله: «إنه ليس في الإسلام ما يبرر إقصاء نصف المجتمع الإسلامي عن دائرة المشاركة والفعل في الشؤون العامة، بل إنّ ذلك من الظلم للإسلام ولأمته قبل أن يكون ظلماً للمرأة ذاتها، ولأنه على قدر ما تنمو مشاركة المرأة في الحياة العامة على قدر ما يزداد وعيها بالعالم وقدرتها على السيطرة عليه، وأنه لا سبيل إلى ذلك من غير إزالة العوائق الفكرية والعلمية من طريق مشاركتها في الشؤون العامة والارتقاء بوعيها بالإسلام والعالم، والثقة في قدراتها حتى تكون مساهمتها في صناعة جيل يخرج عن خويّصة نفسه لينخرط في الهموم العامة للأمة والإنسانية».
ويُضيف: «.. نحن إذن مع حق المرأة الذي يرتفع أحياناً إلى مستوى الواجب في مشاركتها في الحياة السياسية على أساس المساواة الكاملة غير المنقوصة في إطار احترام أخلاقيات الإسلام، فإنما التفاضل بالكفاءة والخلق والجسد لا بالجنس أو اللون، وتأمل في هذه الآية العظيمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)؛ فما أحوج صحوتنا ونهضتنا إلى زعامات نسائية على كل صعيد من نوع عائشة، وخديجة، وأم سلمة، وفاطمة، وأسماء، وأم عمار، وزينب الغزالي، ود. سعاد الفاتح.. فأين بناتنا؟».
وحين تقرأ في كتب ومقالات شيخنا وأستاذنا الغنوشي، تجد نفسك أمام كاتب إسلامي متميز في هذا العصر، يتمتع بقدر كبير من التأصيل والإبداع الثقافي والمعرفة المتبحرة على العلوم والفلسفات والمعارف القديمة والحديثة والمعاصرة، حيث استوعب أفكار مجريات عصره السياسية والحضارية، ومدارسه الاقتصادية، والعقدية، والفكرية، إذ جمع الأستاذ الغنوشي (فرج الله عنه) بين الهم الإسلامي وتحديات العصر، وذلك بنظرةٍ تنويريةٍ وسطيةٍ حكيمةٍ، وراسخة معتمدة على الأصول الإسلامية القاطعة، ولديه قدرة نادرة في عرض الثوابت الفكرية والتشريعية الإسلامية بأسلوب العصر، بحيث تصل إلى القارئ من بني الإنسان بطريقة معقولة مقبولة، فتجد المثقف العصري يسلم بأسلوبه العقلاني الشرعي، وقد ساعده بعد توفيق الله تعالى تجربته، فهو ليس مجرد كاتب أو منظّر يسبح في عالم الأفكار ويخوض غمارها فقط، بل هو عامل مجاهد في مشروع نهضة الشعوب، فهو ساهم في نهضتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتربوية والعلمية، واستفادت الحركات الإسلامية والتيارات الثقافية والمجتمعية في العالم من نتاجه المعرفي، وتُرجمت جميع كتبه للغات المختلفة، وتتلمذ عليها أعداد كبيرة من أبناء الأمة وأنا من بينهم.
وبناء على ذلك، فإني أعتبره أحد أعمدة الفكر الإسلامي المعاصرين، ممن قضوا حياتهم في خدمة الإسلام، والتأسيس لمسيرة الشهود الحضاري، والتمكين لفكر وهوية المسلمين وتعزيز قيمهم وثقافتهم على المستوى الوطني والإنساني.
وإن الشيخ الغنوشي في شخصيته التي أعرفها بعض من التصوف السُّني، ففيه زهد وورع كبيران، وهو مستوعب لفقه القدوم على الله، وله حال في قراءة القرآن بصوته الشجي، والتأمل في القراءة القرآنية، وتأنّيه في الركوع والسجود، وهذا يعرفه من لازمه أو سافر معه أو أتيحت له فرصة للاستماع له، عند السماع منه في هذه القضايا.
فكيف يُلقى هذا الشيخ الثمانيني الفاضل في ظلمة السجن بدلاً من أن يكون بين أبناء شعبه ناصحاً ومُعلماً وقدوة راشدة، يستفيد أبناء الجيل (التائه) من تجربته التي نضجت عبر السنين؟ أم أنّ الأمر دبّر بليل لطمس أي نور وسط الظلام، أو شمعة تُنير دجى الليل البهيم؟!
نعم، لا شك أن الشيخ الغنوشي يمرُّ اليوم في فترة ابتلاء، وإنها سُنة الله في عباده المؤمنين، وبعد كل محنة وصبر منحة من الله تعالى، وكأن لسان الشيخ يقول: وما يفعل أعدائي بي وجنتي في قلبي، وسجني خلوة، وموتي شهادة، فأمثال الشيخ الغنوشي ممن تعرضوا للسجون والابتلاء في سبيل الله، يَعرفون معرفة راسخة بأن الخير فيما اختاره الله، وهمْ يتدبرون ويتأملون قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد).
وإن في تاريخ الأمة أمثلة وتجارب ودروساً سابقة تؤكد أن طريق الحق شاق، ومهمة القدوات العاملة المؤمنة بالله فيها تحديات وصعاب كالتي يمرّ به شيخنا الجليل:
– يوسف عليه السلام سُجن وخرج عزيزاً ممكناً له من الله عز وجل.
– أبو حنيفة مات في سجن أبو جعفر المنصور، واليوم شعوب أصبح فقهه مرجعية لها، كالشعب التركي والأفغاني والباكستاني وغيرهم.
– ابن تيمية مات في السجن وكانت كتبه بعد ذلك ممنوعة، والآن أصبحت في كل مكان، وإذا دخلت عالم المواقع الإلكترونية تجده بأفكاره وآرائه، وفتاويه كأنه حي، وهو حقاً حيٌّ بأثره وتراثه النافع للأجيال.
لقد تناسى خصوم الشيخ الغنوشي أنّ الأفكار لا تموت، والكفاح الصادق محفوظ بحفظ الله ورعايته له، والقدوات الكبيرة جعلها الخلّاق العليم معالم يَهتدي بها أجيال وأجيال، ودول وشعوب وأمم ومجتمعات، وإن تجربة شيخنا الكبير الغنوشي عِلماً وعملاً، سُلوكاً وخُلقاً، لا يمكن سجنها ولا القضاء عليها، بإذن الله تعالى، ولا نشك في رحمة الله تعالى، وفضله وعطائه بأن تكون له صدقة جارية بعد طول عمر وحسن عمل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له»، وإن شاء الله الثلاثة هي أعمال شاهدة لشيخنا الغنوشي، فرَّج الله عنه.
وإننا نسأل الله في هذه الأيام المباركة من ذي الحجة، أن يفرج عن الشيخ الكبير والأستاذ العزيز، وعن جميع المسجونين المظلومين وأهل الابتلاء في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يُطيل عمره في ظل رضاه وعزته وتوفيقه
إن ربي على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين