نزل الإسلام في عصر غير عصرنا، وفي بيئة صحراوية لها طبيعتها، ولسكانها عاداتهم ومفاهيمهم التي تختلف عن عاداتنا ومفاهيمنا، ونحن الآن نعيش عصر الذكاء الاصطناعي، فلماذا تريدون أن تلزمونا بفهم هؤلاء السلف؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
أولًا: نريد أن نقف مع مُسمى «السلف» الذي ظُلم كثيراً، من أهله ومن غيرهم.
يراد بالسلف تاريخياً: أصحاب القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وذلك في الحديث الذي رواه عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً، «ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السِّمَنُ»(1).
فأصحاب هذه القرون هم أفضل الأمة وأكرم الخلق بعد النبيين، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون والأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، قال تعالى عنهم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء هذه الطائفة فقال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك»(2).
وبذلك يتضح لنا أن من تمسك بالكتاب والسُّنة وسار على نهج الصحابة والتابعين في فهمهما فهو من السلف وإن عاش في القرون المتأخرة، ومن خالف منهجهم فليس منهم وإن عاش بين أظهرهم(3).
ثانيًا: هل نحن مطالبون باتباع السلف؟
نعم نحن مطالبون باتباع السلف بنص القرآن الكريم، والآيات الدالة على هذا كثيرة، منها:
– قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 137)، ووجه الدلالة في الآية الكريمة أن الله تعالى جعل الإيمان بمثل ما آمن به الصحابة علامة على الهداية، وجعل التولي عن ذلك دليلاً على الشقاق والضلال.
– وقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100)، ووجه الدلالة في الآية الكريمة هو ثناء الله تعالى على من اتبع السابقين من المهاجرين والأنصار.
– وقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء: 115)، وسبيل المؤمنين هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام قولاً وعملاً واعتقاداً، ووجه الدلالة في الآية الكريمة هو تحريم الخروج عن طريق المؤمنين واتباع غيرها.
– وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)، وأجمع العلماء على أن صحابة رسول صلى الله عليه وسلم هم أئمة الصادقين، وكل صادق بعدهم يقتدي بهم في صدقه.
أما السُّنَّة فقد ورد بها الكثير من الأحاديث التي دعا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباع نهج أصحابه رضوان الله عليهم، منها:
– عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، فجلسنا، فخرج علينا فقال: «ما زلتم هنا؟»، قلنا: يا رسول الله صلينا معك ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: «أحسنتم أو أصبتم»، قال: ثم رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: «النجومُ أمنَةٌ(4) للسماء، فإذا ذَهَبَتِ النجومُ أتَى السماءَ ما توعَدُ، وأنا أمنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أصحابِي ما يوعدونَ، وأصحابي أمنَةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهبَ أصحابي أتى أمتي ما يوعدونَ»(5).
– وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب؛ فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، وعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»(6).
ثالثًا: ما معنى وجوب اتباع السلف؟
بعد أن عرفنا أدلة وجوب اتباع ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين، ينبغي أن نعرف حقيقة هذا الاتباع؛ لأن مثيري هذه الشبهة يعتقدون أن هذا الاتباع يتمثل في اتباع طريقة حياة السلف في معيشتهم، وهذا فهم خاطئ؛ لأن الاتباع المراد هنا هو اتباع منهجهم في التحليل والتحريم والتعامل مع القرآن والسُّنة.
أما التعامل مع مستحدثات العصر من «تكنولوجيا» فالإسلام يرحب به ويحبذه، ومطلوب من المسلم أن يتقن كل ما يساهم في تطوير حياته وتسهيلها.
إن استيعاب وفهم سُنة الأخذ بالأسباب لأفراد الأمة الإسلامية وجماعتها، كما فهمها السلف الصالح هو السبيل إلى انتشال المسلمين من تخلفهم عن ركب الحضارة، وهو المعين لهم -بعد الله تعالى- على التقدم، والرقي، والعزة، والكرامة.
إن الدعوة إلى الالتزام بفهم السلف يقصد بها فهمهم للدين وقضاياه، وهذا ما قصده عبدالله بن محمد بن إسحاق الأذرمي رحمه الله عندما رأى رجلًا تكلم ببدعة ويدعو الناس إليها، حيث قال له: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها، قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها، قال: أفوسعهم ألا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل.
قال ابن قدامة رحمه الله معلقاً على هذا الموقف: «وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، فلا وسَّع الله عليه»(7).
فهل بعد هذا البيان يحق لهؤلاء الموتورين إثارة مثل هذه الشبهات؟!
____________________
(1) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، رقم (3650).
(2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، رقم (3641).
(3) منهج السلف في الدفاع عن العقيدة، عبدالمجيد الوعلان، (6/ 1)، بتصرف.
(4) علامة الأمن والأمان والسلامة.
(5) صحيح مسلم (2531).
(6) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) واللفظ له، وصححه الألباني.
(7) لمعة الاعتقاد، موفق الدين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة (1/ 45).