حاولت مشاريع إعادة تأويل التراث الإسلامي أن تقدم منهجاً مختلفاً في قراءة الكتاب والسُّنة وإرث الأمة المنتسب إليهما، منهجاً لا يعلن النكير على التراث ولا القطيعة معه، ولكنه يستخدم نصوصه ومصطلحاته لتقديم رؤية منفصلة عن جوهره وحقيقته المتمثلة في كونه يحمل في طياته رسالة ربانية أخيرة لكل إنسان في كل زمان ومكان، الرسالة التي تقتضي وضوح دلالتها وثبات أحكامها ووجوب الالتزام بتعاليمها كما قال الله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153).
ومن المشاريع التأويلية للنص الشرعي والتراث الإسلامي مشروع د. محمد شحرور وقراءته المعاصرة، ولد محمد شحرور في دمشق عام 1938م، وتوفي في أبو ظبي عام 2019م عن عمر ناهز 81 عاماً، حصل على شهادة الدكتوراة في الهندسة المدنية من جامعة دبلن في أيرلندا، وعُيِّن مدرساً في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق، وبدأ بدراسة القرآن الكريم بعد هزيمة عام 1967م، وأصدر كتابه الأول «الكتاب والقرآن.. قراءة معاصرة» عام 1990م، وأتبعه بـ10 كتب، كان آخرها «دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم.. المنهج والمصطلحات» في عام 2016م.
وأثار مشروعه في تأويل القرآن الكريم «القراءة المعاصرة» جدلاً واسعاً في مختلف الأوساط، ففي الوقت الذي عارضه فيه متخصصو الشريعة الإسلامية بوصفه مشروع «تحريف للدين»، اعتبره بعض الحداثيين مجرد محاولة تلفيقية مفلسة لـ«استنطاق التراث» بما يضمره صاحب القراءة المعاصرة.
أفكار صادمة
كانت نتائج مشروع د. شحرور صادمة للرأي العام المسلم، وخارجة في كثير من الأحيان عن حد اللياقة والأدب الإسلامي المعروف، فمن نتائجه الصادمة التي يزعم الوصول إليها: إعادة تعريف المسلم، فالمسلم في فهم د. شحرور هو المؤمن بوجود الله تعالى وباليوم الآخر والذي يعمل صالحاً، وليس من شهد لله بالوحدانية ولا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، كما ينطق بذلك الإنسان أول دخوله في الإسلام، ليَدخل في مسمى المسلم اليهودي والنصراني والمجوسي والبوذي وغيرهم؛ لأن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ليست من أركان الإسلام! بحسب شحرور. (انظر كتابه: الإسلام والإيمان، ص 38).
لم تكن هذه المسألة الوحيدة الصادمة التي أفرزها مشروع د. شحرور، فنفيه لعلم الله تعالى الأزلي، ووصفه له بما لا يليق به سبحانه، وتحريفه لمعاني القرآن الكريم، وإباحته للفطر في رمضان بلا عذر، وفتاواه الشاذة في العبادات، وتحديده للحد الأدنى من عورة المرأة بما يستحيي القلم عن خطه، وإباحته الزنى الخفي باتفاق الطرفين، وغير ذلك من الأمثلة والمسائل، هي التي نبهت العلماء إلى خطورة هذا المنهج في قراءة الوحي الشريف، وهي ما جعلتهم يلتفتون إلى فساد المنظومة المعرفية التي أنتجتها.
ولذلك توالت الجهود العلمية المختلفة لبيان الأخطاء الجسيمة التي وقع بها د. شحرور، وكان آخرها الجهد المشكور الذي قدمه د. صهيب السقار في الرد على منهج د. شحرور بأدواته المعرفية نفسها في ثلاثة كتب، وفي برنامجه المتاح على «يوتيوب» الذي سماه «فنجان قهوة».
ولكن التساؤل بعد ذلك: كيف تسللت مثل هذه الأفكار إلى المجتمع المسلم؟ وما المنهج المعرفي الذي أعطاها مبرر الرواج فيه؟ وما المنهج المعرفي المقابل الذي لا يسمح لمثل هذه الأفكار بالتمدد فيه بالمستقبل؟
إنكار حجية السُّنة النبوية ونفي الوحي عنها
يعتمد منهج د. شحرور في نموذجه المعرفي على نفي الوحي عن السُّنة النبوية وإلغاء حجيتها، فالسُّنة النبوية في مشروع د. شحرور مجرد تجربة تاريخية لا تمثل منهج الله تعالى الواجب الاتباع على مر الزمان والمكان، فيفرق د. شحرور تفريقاً تعسفياً بين السُّنة الرسولية والسُّنة النبوية، ويجعل السُّنة الرسولية وحدها واجبة الطاعة، ويحصرها في القرآن الكريم فقط، أما السُّنة النبوية -وهي كل ما عدا القرآن الكريم من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته- مجرد أحداث تاريخية مناسبة لوقته وزمانه، لا تصلح لزماننا، ولا تلزم أحداً بعد زمانه. (شحرور، دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم، ص 44 – 45).
من اللسان العربي المبين إلى القراءة المعاصرة
وبعد إسقاط السُّنة النبوية في الحجية والتشريع، زعم د. شحرور أنه يعتبر القرآن الكريم الأصل الوحيد الذي يعتمد عليه لبيان أحكام الله تعالى، ولكنه في الوقت نفسه نجده ينظر إلى بعض آيات القرآن الكريم بعين التجربة التاريخية، فيعتبر أن في القرآن الكريم نصوصاً تاريخية لا تؤخذ منها أحكام شرعية، ولا علاقة لها بمضمون الرسالة، إلا من حيث ورودها لتصديق فحوى الرسالة، كقصص الأنبياء عليهم السلام، والآيات التي تتحدث عن غزوات «بدر» و«أحد» و«الأحزاب» وغيرها من أحداث السيرة النبوية التي وردت في القرآن الكريم. (شحرور، دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم، ص 39).
ثم يُعمل د. شحرور مبضعه الذي يسميه «القراءة المعاصرة» فيما بقي من آيات الكتاب العزيز، ليستنطقها بثقافة الحضارة الغالبة، بمنهج ظاهره اللغة، وحقيقته قواعد مخترعة أجنبية تخرج على اللغة ومناهج دلالتها، ليصل عن طريقها إلى معان جديدة تنسب إلى النص، وليست منه.
يتضح مما سبق أن منهج القراءة المعاصرة يضرب منهج الاستدلال الذي أرشد إليه القرآن الكريم نفسه لبيان أحكام الدين، كسُنة النبي صلى الله عليه وسلم وقواعد تفسير النصوص الشرعية ومقاصد الدين الكلية، ونتائجه الصادمة هي خلاصة منطقية لذلك المنهج الفاسد في الاستدلال، ولكن الفائدة الأهم التي يمكن أن نخرج منها اليوم من هذه التجربة التاريخية مع د. شحرور هي ضرورة تقديم تأصيل علمي متين للشباب المسلم يبين أصول الإسلام ومناهجه العلمية في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة.
أما مشروع د. شحرور فقد فشل في جذب المفكرين والباحثين إليه، لضعف بنيته العلمية وتناقض مقرراته مع نفسها ومع قواعد الدين المقررة، ولا يتوقع له أن يستمر حاضراً فاعلاً في الأمة، وصدق الله إذ يقول: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17).