يؤمن المسلمون باليوم الآخر والبعث، وبأن الله يحيي الموتى، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُقسم على حدوث البعث، فقال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (التغابن: 7).
وتستشري في العالم الآن خاصة في الغرب حمى التخلص من الموتى بطرق تقشعر لها جلود الأبدان الحية، بحجة حماية البيئة، فهل هذا صحيح، أم أنه عدم إيمان بالبعث والآخرة؟
الحرق
تم تقديم ممارسة حرق الجثث على النيران المكشوفة إلى الغرب من قبل اليونانيين حوالي ألف سنة قبل الميلاد، فيتم حرق جثث الجنود الذين قتلوا في ساحة المعركة، ثم يتم جمع الرماد وإرساله إلى الوطن لدفنه باحتفال يحضره عائلات القتلى.
وحكمت محكمة بريطانية لأول مرة بقانونية حرق الجثث عام 1884م، وقد احتج الاجتماعيون والدينيون بممارسات مثل المراقبة الطويلة على جثث الموتى قبل الدفن، وفي عام 1902م وافق البرلمان البريطاني على الحرق، وتبعته قوانين إضافية، وقد لخص مؤلف الموسوعة الكاثوليكية عام 1908م القضية قائلاً: إن حرق الموتى بمثابة «مهنة عامة للمادية وانعدام الدين».
على الأرض، يموت 166 ألف شخص يومياً (مليون كل ستة أيام)، والعدد يزداد مع زيادة سكان العالم، وتدّعي بعض البلدان أن المساحة المخصصة للمقابر على وشك النفاد، (ولكن ألا يمكن بسهولة إنشاء مساحات واسعة أخرى ولو بعيدة عن العمران؟)، فلجؤوا إلى حرق الموتى وصارت هي الطريقة الغالبة في الغرب، فحسب استطلاع «دراسة الموت» يقول 15% فقط من البريطانيين: إنهم يرغبون في أن يُدفنوا، أما الغالبية فيريدون حرق جثثهم، وتوصل نفس الاستطلاع إلى أن ثلث البريطانيين فقط (33%) يؤمنون بالحياة الآخرة(1).
ويزعم البعض كذباً أن حرق الجثث يوفر مساحات على الأرض يستفيد منها الأحياء! ولا يعترفون أن الأرض واسعة للاستصلاح، وأن الحرق يتطلّب وقوداً كثيراً، ينتج ملايين الأطنان من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتتم عملية الحرق عادة بوضع الجثة في تابوت يُحرق في فرن خاص، وتستغرق العملية 3 ساعات، في حرارة تبلغ ألفي درجة مئوية.
تلاعب بالرفات
في كتابه «عمل الموتى: تاريخ ثقافي لبقايا البشر»، يقول المؤلف: «أخبرني صياد أعرفه أنه ورفاقه أخذوا بعض رماد صديق ميت، ووضعوها في قذائف البارود الأسود التي صنعها، ثم أطلقوها في هواء الغابة، أما الباقي فوضعوه حتى يمكن لغزال أن يبتلع الرماد ثم يصطادونه ليأكلوه، هذا يشبه ما فعل برماد كاتب أمريكي مشهور تم إطلاق رماده مع الألعاب النارية الملونة في الهواء من مدفع، وأخبرتني إحدى النساء أن رماد جدتها لونت به الحبر لتستخدمه في الوشم؛ وقامت عائلة مصور فوتوغرافي محترف بوضع رماده في خراطيش الأفلام ودفنها في الأماكن التي عمل فيها في العالم»(2)!
وتم إطلاق رماد مؤلف سلسلة «ستار تريك» إلى الفضاء مع رفات آخرين، كجزء من حمولة قمر صناعي إسباني، ونظمت زوجة أحد متخصصي الأسلحة حفلة إطلاق نار للصيد لأصدقائها المقربين، باستخدام خراطيش محملة برفات زوجها(3)!
لذا، أعلن الفاتيكان أنه يجوز حرق جثث الكاثوليك، ولكن لا ينبغي نثر رمادهم في البحر أو الاحتفاظ به في الجِرار بالمنزل، وأنه يجب حفظ البقايا في «مكان مقدس» كمقبرة الكنيسة، ولا يقسم الرماد بين أفراد الأسرة، «ولا يجوز حفظه في تذكارات أو قطع مجوهرات»(4)، هذا الإعلان يدل على أن الفاتيكان قلق من أن هذه الممارسة تتضمن أفكاراً خاطئة حول الموت، من الاعتقاد بأن الموت هو النهاية النهائية للحياة، مع انتشار المفاهيم العلمانية في المجتمعات المعاصرة حول الحياة الآخرة والاستخفاف بالجثث، وتحويل الموتى إلى تذكارات للأحياء.
فصل اللحم عن العظم (إذابة الجثث أو التحلل المائي القلوي)!
وهي طريقة جديدة للتخلص من الموتى، حيث يوضع الميت في جهاز لإذابته، فيتم تسخين محلول قلوي قوي جداً، إلى 160 درجة مئوية، والمحلول لا يغلي لارتفاع ضغط الجهاز، تستغرق الإذابة 90 دقيقة، ثم تأتي مرحلة الشطف، والتصريف، وبعد 3 ساعات، يُفتح الجهاز وتؤخذ العظام(5) وتجفف، ثم يتم سحقها بآلة إلى مسحوق مثل الدقيق، وهي نفس الآلة المستخدمة بعد الحرق العادي(6).
وحسب استطلاعات الرأي، فلا يوجد أحد تقريبًا من الجمهور البريطاني سمع عن هذه الممارسة، فلما شرحت لهم، قال 29%: إنهم سيختارونها لجنازاتهم الخاصة(7).
وهذه الممارسة قانونية في أستراليا وأمريكا وكندا (فيها 200 منشأة لإذابة الجثث)، وفي جنوب أفريقيا، حيث أذيب رئيس الأساقفة «ديزموند توتو»، ويدّعون أن إذابة الجثث هو خيار صديق للبيئة! رغم أنها تستنفد طاقة وتلوث المياه، وهي قانونية ببريطانيا، ولكن استخدمت في تجارب محدودة لاختبار ما إذا كان المحلول الناتج عن إذابة الجثث آمناً للإطلاق في نظام الصرف الصحي.
الموتى إلى سماد بشري!
وتقدم شركة أمريكية خدمة جديدة في 5 ولايات لتحويل الجثث إلى «سماد بشري»، لتوفير جنازات صديقة للبيئة، وتسمى بعملية «الاختزال العضوي الطبيعي»، وأظهرت دراسة على جثث متطوعين أن الأنسجة تحللت تماماً خلال 30 يوماً.
وتدّعي الشركة أن تحويل جثة إلى سماد عضوي يوفر طناً من الكربون، بالمقارنة مع حرقها (ولماذا تحرق ابتداء؟)، أو عملية الدفن التقليدية (وهذا غير صحيح)، وأن مخاوف التغير المناخي تدفع الكثيرين للاهتمام بهذه الطريقة، فسجل فيها آلاف الأشخاص، وتتضمن عملية تحويل الجثة إلى سماد، وضعها في وعاء مع رقاقات الخشب والبرسيم والقش، بما يسمح للميكروبات بتحليلها، وتوضع في أدراج خاصة، وبعد 30 يوماً، وبعد سحق العظام وإضافته لباقي الرفات، يكون الرفات متاحاً لكي ينثره الأقارب على النباتات أو الأشجار(8)!
العبرة لنا
نرجو ألا تصل هذه الطرق المهينة إلى عالمنا الإسلامي، فقد اعتنت شريعتنا بالإنسان وكرمته وجعلت له حرمة حياً وميتاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا» (رواه أبو داود، صحيح)، فالمسلم محترم حياً وميتاً، وحرمته بعد موته باقية، فالواجب عدم التعرض له بما يُؤذيه ويُشوه خِلْقتَه، وليس مشروعاً في الإسلام أن يُحْرَقَ الميت، بل هذا امتهان له وحَطٌّ من كرامته، فقد حرّم الإسلام أن يُدَاس ويمشى ويقعد على قبر الميت، فكيف بحرقه! ومن فتاوى اللجنة الدائمة: حرق جثث الموتى عمل غير جائز شرعاً، والسُّنة أن الميت المسلم يُغسَّل ويُكفَّن ويُصلَّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
ومهما كانت طريقة الموت، أو طريقة القبر بالدفن أو الحرق أو الإذابة أو الترك، فإن الله قادر على جمعهم، قال الله تعالى: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (ق: 4)، أي: ما تأكل من أجسادهم في البلى، نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان؟ وأين ذهبت؟ وإلى أين صارت؟ (وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ)؛ أي: حافظ لذلك، فالعلم شامل، والكتاب فيه كل الأشياء مضبوطة (ابن كثير).
وبعد، فإن أرض الله واسعة، وفيها مناطق غير معمورة على أطراف المدن تكفي لملايين المقابر، قال القرطبي في تفسير: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً {25} أَحْيَاء وَأَمْوَاتاً) (المرسلات)؛ أي: الأرض ضامة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها، وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه.
والطاقة المهدرة في صناعة واستخدام الأسلحة الفتاكة، ومحركات السيارات، والأغذية المصنعة غير الصحية، وفي الملاهي وحفلات الديسكو، والأضواء الكاشفة في المباريات، لا يسأل عنها أحد، وتلتهم الصناعات الكيماوية والبترولية والمعدنية كميات طاقة ضخمة، فهل دفن الموتى في قطعة أرض صغيرة، بكرامة بعد تطهيره وغسله ببعض الماء، وستره وتكفينه في بعض القماش هو السبب في أزمة الطاقة، ونقصان الأرض المتاحة؟ أم هي قضية إيمان أو تكذيب بالآخرة؟!
_______________________________
(1) YouGov Death Study: Britons on life after death, 6 October 2021.
(2) The burning question – how cremation became our last great act of self-determination, Thomas Laqueur, The Guardian, 30 October 2015.
(3) King of gonzo blasts off one last time, The Guardian, 20 August 2015.
(4) Vatican issues guidelines on cremation, says no to scattering ashes, CNN, 25 October 2016.
(5) إذابة جثث الموتى «بدلاً من الحرق والدفن» في المملكة المتحدة، بي بي سي، 20 ديسمبر 2017م.
ical alternative to burial and cremation, BBC News, 22 May 2017.
(7) ‘Boil in the bag’ environmentally friendly funerals arrive in the UK, The Guardian, 2 July 2023.
(8) كيف يمكن تحويل جثث الموتى إلى «سماد بشري»؟ بي بي سي، 17 فبراير 2020م.