الأصل في مفهوم الخطاب الديني كجزء من النظرية الإعلامية أنه جاء لحل أزمات تتعلق بحق الإنسان في علاقته بربه؛ كحفظ الدين، وحق الإنسان في ممارسة حياته الطبيعية وعدم الاعتداء عليه، وكذلك عدم اعتدائه على الآخرين؛ وهذا هو حفظ النفس، وعدم الاعتداء على عقله؛ وهذا حفظ العقل.
أما في حق حفظ المال فـعدم اعتدائه على أموال الآخرين، وعدم اعتداء الآخرين على أمواله، وكذلك حفظ النسل بتنظيم العلاقة بين الرجال والنساء في إطار الشرع، وهذا فيما يتعلق بالكليات الخمس.
في حوارنا مع د. سلامة عبدالقوي، مستشار وزير الأوقاف المصري الأسبق لشؤون الإعلام، طوفنا حول هذا الموضوع.
هل الخطاب الديني يصنع أزمة؟
– الواقع أن الخطاب الديني من هذه الأمور لا يصنع أزمة، أما واقعياً فإنه أحيانًا وفي كثير من الأحاديث والبرامج الدينية والخطابات الموجهة المنتمية إلى خلفية شرعية معينة يمكن لها أن تصنع أزمة، بل وأزمة كبيرة جدًا؛ فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بإسقاط أو تطبيق الكليات الخمس على الواقع، فإن الشرع عندما ضمن للناس حفظ هذه الحقوق الخمسة جعل لها آليات نسميها في الشريعة الإسلامية «الحدود»، ويمكن تسميتها في مجتمعات أخرى بالقوانين التي تضبط علاقة الإنسان مع ربه وعلاقته مع الآخرين.
وهنا نرى أن البعض يصدر فكرة الحدود تصديراً خاطئاً، وهذا يصنع أزمة، وغالبًا ما تتفاقم للأسف، ويتسبب ذلك في تشكيل وتكوين فهم لدى الناس أن الشريعة الإسلامية جاءت لتقطيع الأيادي ولتقتل ولتحد من حريات الناس اليومية فيما يتعلق بعلاقة الرجال بالنساء وشرب الخمر وما شابه ذلك.
ومن هنا نجد أن التصدير الخاطئ أوقع الخطاب الديني كله في صنع أزمة كبيرة جدًا، فالأصل والأولى أن يتم تصديره بشكل منطقي معتدل؛ لأن إقامة الحدود مسؤولية الحاكم وليست مسؤولية الأفراد؛ وبالتالي فنحن في مراحل تكوين المجتمع والأصل فيه أن يتمتع المواطن فيه بكامل حريته، ولا يُعتدى فيه على أي حق من حقوقه الشخصية أو النفسية أو المادية وغيرها.
هل الخطاب الديني بحاجة إلى تجديد؟
– طبعاً، كل شيء في الدنيا يحتاج إلى تجديد، ومصطلح التجديد يجب أن ينضبط؛ لأنه إذا انفلت يسوء الدنيا كلها، ولذلك هناك فارق كبير بين التجديد والتغيير، فالخطاب الديني يحتاج إلى تجديد نعم، كما يريد الإنسان أن يجدد ملابسه وسيارته، ومفهومه لمصطلح علمي معين يتطور بحسب آليات الزمان والمكان إلى آخره، ومن هنا فالخطاب الديني شأنه شأن أي خطاب، ولكن فيما يتعلق بالفروع لا الأصول، حسب مقتضيات كل زمان ومكان وكل واقع.
فمن عظمة الشريعة الإسلامية أنها تتناسب مع كل زمان ومكان، ومع كل الأشخاص أينما كانوا، لذلك تبقى الأصول ثابتة، بينما التجديد في الفروع فقط المتعلقة بالتطبيق العملي الميداني.
لماذا تغيب مقاصدية الخطاب الديني عند بعض المشتغلين به؟
– في الحقيقة السؤال عبقري جدًا، ولا بد من القول: إن الخطاب الديني لا بد أن يكون له أهداف؛ أي مقاصد، فإذا غاب المقصد عن المشتغلين بالمجال الدعوي الديني يتوهون، فلنتخيل مثلًا أنه عند خروجك من المنزل مرتدياً أي زي تجده دون معرفة أين تذهب! فلو سألك أحدهم: أين تذهب؟ فلن يجد عندك إجابة؛ لأنه من الأصل أنت لا تعرف وجهتك كي تجيب عن أحد، فتظل طوال اليوم من شارع إلى آخر ما يهلك البدن ويضيع الوقت وربما نفقات كثيرة بلا أي نتيجة!
بينما قد نرى شخصاً آخر أعد خطته قبل خروجه من منزله؛ فحدد المكان والوجهة التي سيذهب إليها، مرتدياً الزي اللائق بها، مستعداً نفسياً، مرتباً مواعيده، وما الذي سيقوله، وكم مدة بقائه هناك، وغير ذلك، فكل هذه الأمور تضبط مع الشخص عملية تحقيق أهدافه.
فإذا لم تكن هناك مقاصد أو أهداف للخطاب الديني عند بعض العاملين في الساحة الدينية يحدث شطط وانحراف عن الهدف، وأظن أن الواقع الذي نعيشه مرير جدًا في هذا الجانب، فهناك أناس كثر غابت المقاصدية عندهم؛ وبالتالي انحرفت اتجاهاتهم الفكرية، وانحرف الأفراد التابعون لهم، ومن هنا كان العلماء القدامى يضعون علم المقاصد لهدف ضبط تطبيق الشريعة الإسلامية في واقع الناس؛ يعني ضبط الخطاب الديني.
هل تتوافق مع مصطلح الإعلام الديني، أم تراه تأطيراً وقولبة؟
– لدينا في الشريعة الإسلامية نقول: إنه «لا مشاحة في المصطلحات»؛ يعني لا نهتم كثيراً بالمصطلح، ومنه مثلًا إعلام ديني وجريدة دينية وقناة دينية والملحق الديني للجريدة الفلانية، فلا مشكلة في المصطلح، أما ما يهمنا هنا هو المدلول الشرعي والديني لهذا الأمر، فأنا لا أرى أنه يعتبر تأطيرًا أن يكون لدينا إعلام ديني ممثل في قنوات وصحف وشيوخ ورموز دينية ومؤتمرات علمية، وهذا حتى وإن كان يعتبره البعض قولبة أو تأطيراً فما المانع؟ وما الضير في هذا؟ فأنا أتوافق مع فكرة ومصطلح الإعلام الديني، وهذا لأنه يحقق أهداف الخطاب ومقاصدية الخطاب الديني ولا ينفصل عن فكرة الاندماج في المجتمع، فلا مانع من وجود إعلام ديني وإعلام رياضي وإعلام فني وثقافي، وفي المجمل كله مندمج مع بعضه، وكل له جمهوره وأهدافه.
ما ضوابط الإعلام الديني ومحدداته؟
– إذا اتفقنا أنه لا مانع من إقامة مصطلح الإعلام الديني، فلا بد أن يكون له ضوابط، ومنها أولًا ألا يتصدى لهذا الأمر إلا المختصون أصحاب العلم الشرعي المتخصصون في العلم الشرعي؛ كالمؤسسات الدينية العملاقة في مصر مثلاً الأزهر الشريف ومؤسساته كجامعة الأزهر والمعاهد الملحقة بها، أو جامعة الزيتونة مثلاً في تونس، أو غيرها في دولنا العربية الإسلامية.
هذه الضوابط توضع في ضوء الأهداف، فما الذي يجب أن يحققه الإعلام الديني من أهداف؟ ما المحددات التي يجب أن ينضبط بها؟ فمثلاً نحن لدينا في مجتمعاتنا مسيحيون ويهود يعيشون معنا، أو ملحدون أو بوذيون حتى، فلا بد من مساحة تعايش تضبطها المحددات والاندماج مع المسلمين الموجودين في غير مجتمعاتنا كالمقيمين في أمريكا وكندا وأوروبا، فيجب أيضًا أن يكون ذلك ضمن المحددات التي تُراعى من الإعلام الديني.
الصورة الذهنية للرموز الدينية، لماذا نؤتى من هذا الطريق؟
– في الحقيقة، ساهم الإعلام وتحديداً أفلام السينما القديمة بكل أطيافها وأشكالها ومؤسساتها، لسنوات طويلة، وما زال، على تشويه الرموز الدينية وخاصة التابعة للأزهر الشريف في وقت لم يجرؤ فيه أحد على تشوية الرموز الدينية الأخرى كالقساوسة مثلاً، لم نرَ أحدًا أو عملاً تجرأ على السمت المسيحي بأي شكل من الأشكال، ولا نرضى بذلك، لكن نجد في الأفلام القديمة وكذلك الحديثة وأسماء بعينها ساهمت بصورة كبيرة في تشويه الصورة الذهنية؛ فحولت وقار المشايخ إلى مشايخ الفتة، وأهم ما يريده ملء بطنه! أو رجل سحر وأعمال وشعوذة أو ما شاب ذلك! فأصبح مفهوم الشيخ ينحصر عند العامة من الناس على تلك المعاني فقط، وهذا يسيء بشكل كبير جدًا إلى الرموز الدينية؛ ومن ثم الخطاب الديني بعد ذلك.
ومن هنا نجد أن المحددات والضوابط لا بد أن يضعها المجتمع أولاً، ثم المؤسسات الأخرى وخاصة الإعلامية لتحسين الصورة عند العامة، فهذه ليست مسؤولية المشايخ ولا المؤسسات الدينية وحدها، إنما كافة المؤسسات الإعلامية بكل أطيافها وأشكالها وكذلك الحكومات.
مسؤولية المشايخ في هذا الأمر قد تكون في دور المؤسسات الدينية من الداخل كالأزهر والأوقاف والإفتاء بضبط حركة وظهور أبنائها إعلاميًا كمسائل الزي الأزهري الجميل اللائق، وأن يتخاطب ويتحدث إلى الناس بلغة يفهمونها إلى غير ذلك، ويجب أن نؤكد أن الصوة الذهنية الآن اختلفت عن أربعين أو خمسين سنة مضت، فالحمد لله السنوات الأخيرة تغيرت إلى حد ما الصورة الذهنية للمشايخ وخاصة مشايخ الأزهر.
الموضوع في الحقيقة مهم جداً وغاية في الأهمية مسألة الخطاب الديني، ومسألة متى يصنع أزمة، ومتى يحل أزمة، وأشكركم في مجلة «المجتمع» على إتاحة الفرصة للتعبير عن رأيي في هذا الموضوع، وهو من الأهمية بمكان، فأرجو أن تخصصوا له مساحات أكبر، وأيضاً أن تولوه اهتماماً كبيراً، باعتبار أن الفترة التي نتواجد بها وكذلك المقبلين عليها ستشهد زخمًا إعلاميًا وحضورًا دينيًا كبيرًا، ولا بد أن ينضبط الخطاب الديني حتى يتناسب مع جميع الأمكنة والأزمنة والأشخاص والتعايش مع الآخرين.