تحول تطبيق «تيك توك» إلى سبيل لجني الأرباح عبر مشاركة مقاطع الفيديو القصيرة، لجذب الملايين من المستخدمين حول العالم، ومع هذا التحول، قدم التطبيق الصيني شروطاً أيسر من «يوتيوب» في ربح المال؛ ما أسفر عن ظاهرة استغلال الأطفال في تقديم محتوى سريع الانتشار، بحكم انجذاب ملايين المستخدمين إلى المقاطع التي يقدمونها.
وانتشرت في الآونة الأخيرة فيديوهات، عبر التطبيق، لآباء أو أمهات يصورون أبناءهم وهم يرقصون بشكل عفوي، أو وهم يقلدون مشاهير بحركاتهم الطفولية، أو يرصدون ردود فعل أطفالهم بعد إخافتهم بالكلاب، أو لبس الأقنعة المخيفة.
وهناك فيديوهات أخرى تظهر آباء وهم يمارسون التنمر على صغارهم، من خلال إرغامهم على أداء حركات بهلوانية خطرة، أو ترديد أغان تحتوي على كلمات وعبارات غير لائقة، أو تصوير وجوه الأطفال والخوف الذي يتملكهم بعد ارتكاب أخطاء داخل المنزل واكتشاف الآباء أو الأمهات لها.
لكن هل يعلم الآباء والأمهات ما يحدث من تشوهات نفسية وسلوكية من أخطار استغلال أطفالهم للتربح من شهرتهم؟ وما الأثر النفسي والسلوكي لذلك على الأطفال أنفسهم؟ وما أبرز سمات الأطفال الذين اعتادوا الشهرة عبر منصات الفيديو؟
ضغوط نفسية
تجيب دراسة أجرتها جامعة كارديف في بريطانيا عام 2020م، بأن استغلال الأطفال للتربح من «تيك توك» يمثل خطراً كبيراً على صحتهم وسلامتهم النفسية والسلوكية، ويسبب لهم ضغوطاً نفسية وعقدة نقص وانعزالاً اجتماعياً وانحرافاً سلوكياً.
40 % من المشاهير دون سن 16 عاماً يتعرضون لإساءات
وتبين الدراسة أن 40% من مشاهير «تيك توك» دون سن 16 عاماً يتعرضون لانتقادات لاذعة وإساءات مستمرة من قبل المتابعين؛ ما يؤثر سلباً على ثقتهم بأنفسهم وصورتهم لذواتهم.
كما أن هؤلاء الأطفال يشعرون بضغط كبير لإنتاج محتوى جديد وجذاب بشكل مستمر، ما يحول دون تفرغهم لدراساتهم وأنشطتهم الترفيهية.
وإضافة لذلك، فإن استغلال الأطفال للتربح من «تيك توك» يجعلهم يخسرون روح الطفولة والبراءة، ويصبحون أكثر تعرضاً للإغراءات والانحرافات التي قد تقودهم إلى المخدرات أو الجرائم أو التطرف.
ومن أبرز سمات الأطفال المشاهير على منصات الفيديو، بحسب دراسة أجرتها جامعة كولورادو الأمريكية عام 2019م: الميل إلى الغرور والتباهي والتفاخر بشهرتهم ومواهبهم وثرواتهم؛ ما يجعلهم يتعالون على الآخرين ويستخفون بآرائهم ومشاعرهم، إضافة إلى فقدان الاحترام للقيم والأخلاق والدين، واتباع الموضات والأذواق السائدة دون تمييز أو نقد، ما يجعلهم أقرب إلى الانفلات الأخلاقي.
كما يعاني كثير من مشاهير «تيك توك» من الأطفال، بحسب الدراسة ذاتها، من الضعف العاطفي والانفصام الشخصي، فهم يحاولون إظهار صورة مثالية لأنفسهم على الشاشات، بينما يخفون همومهم وآلامهم في داخلهم؛ ما يجعلهم يشعرون بالوحدة والحزن والخوف.
الإصابة بالإدمان
ومن أخطر الانعكاسات السلوكية على هؤلاء الأطفال، الإصابة بالإدمان على استخدام منصات الفيديو، إذ يقضون ساعات طويلة في تصوير مقاطع جديدة أو مشاهدة مقاطع الآخرين؛ ما يحرمهم من الراحة والنوم والتغذية السليمة.
ومن هذا المنطلق، أعلنت إدارة حماية الطفل في دائرة الخدمات الاجتماعية في إمارة الشارقة، في يوليو 2020م، أن استغلال الأطفال من الأهل عبر شبكات التواصل الاجتماعي «يهدد الاستقرار النفسي والاجتماعي للطفل، ويعرضه للتنمر والإساءة أو الابتزاز من أقرانه أو المتابعين».
ويؤكد الاختصاصي الاجتماعي الإماراتي يعقوب الحمادي، أن استغلال الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي لزيادة عدد المتابعين، أو للشهرة عن طريقهم، انتهاك لخصوصية الطفل «يحد من حريته، ويعلمه التصنع في سلوكه وتعامله مع الآخرين، ويفقده تلقائية الأطفال في التصرف والحركة والكلام»، حسبما أوردت صحيفة «الإمارات اليوم».
وبيّن أن الطفل يمر بمراحل عديدة، ولكل مرحلة من مراحل نموه صفة تصقل شخصيته، ودعا الآباء والأمهات إلى إعطاء مساحة لأطفالهم ليعيشوا مراحلهم العمرية بتلقائية، وبالطريقة التي يرغبون فيها، لا كما يرغب آباؤهم وأمهاتهم، لافتاً إلى ضرورة تقبل فكرة احترام خصوصية الطفل، وعدم إقحامه في عالم التواصل الاجتماعي سواء بشكل إيجابي أو سلبي.
فحتى مواهب الأبناء ينبغي على الآباء والأمهات السعي لإظهارها بصورة جميلة، بعفويتها، لا استغلالها لمصلحة مالية تشكل ضغطاً على براءة الطفولة، بحسب الحمادي.
دراسة أجرتها جامعة هارفارد الأمريكية، في سبتمبر الماضي، ربطت بين «تيك توك» وإصابة الأطفال بمرض الفُصام، وذلك بعد تزايد طلبات إحالة طلاب من المدارس في الولايات المتحدة إلى الأطباء النفسيين وتشخيص حالتهم باضطراب الشخصية.
وأوضحت الدراسة أن التطبيق مملوء بالأخطار الناجمة عن محاولات التأثير في عقول الأطفال والمراهقين، وكذلك إصابتهم باضطرابات انفعالية وسلوكية، خاصة مع موجة التحديات الخطيرة.
الغرور والإدمان والانفلات الأخلاقي تداعيات سلبية للظاهرة
وجاء نشر الدراسة بعدما ضجت وسائل الإعلام الأمريكية بخبر وفاة مراهق بعد ساعات قليلة من مشاركته في «تحدٍّ» على «تيك توك»، يتضمن أكل شريحة من أحد منتجات رقائق البطاطس التي تحتوي على الفلفل الحار؛ ما تسبب في مشكلات كبيرة بمعدة كثير من الأطفال ذوي المعدة الحساسة، بعد مشاركتهم في التحدي، حسبما أوردت شبكة «FOX 26 Houston» الأمريكية.
حلول عاجلة
ولوقف تلك الظاهرة، توجه دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) عام 2021م، إلى ضرورة تحديد المسؤولية المشتركة بين الأطراف المعنية باستغلال الأطفال عبر منصات الفيديو، على النحو التالي:
– الأطفال أنفسهم: إذ يجب عليهم أن يكونوا أكثر وعياً وحذراً من أخطار استغلالهم على «تيك توك»، وأن يحافظوا على خصوصيتهم وسلامتهم، وأن يستخدموا التطبيق بشكل معتدل وإبداعي، دون التأثر بضغوط أو إغراءات الآخرين.
– الآباء والأمهات: تؤكد الدراسة ضرورة أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم في استخدام «تيك توك»، وأن يشاركوهم في اختيار المحتوى المناسب لسنهم وثقافتهم، وأن يراقبوا نشاطاتهم على التطبيق، وأن يحدُّوا من زمن استخدامه، وأن يثروا حياتهم بالأنشطة التعليمية والترفيهية البديلة.
– المشاهير والجهات المستغلة: إذ يجب فرض احترامهم لحقوق الأطفال وكرامتهم، وأن يتجنبوا استخدام الأطفال كوسيلة للحصول على المال أو الشهرة أو السلطة، وأن يتعاملوا معهم بصدق وشفافية، وأن يقدموا لهم الدعم والإرشاد اللازمين، وهو ما يتطلب دعماً قانونياً وحماية من المؤسسات الرسمية، التي تمثل الطرف الأخير في المسؤولية عن الظاهرة.
– الحكومات ومؤسساتها: فالقوانين والضوابط الصارمة لحماية الأطفال من الاستغلال على «تيك توك» مسؤولية الحكومات ومؤسساتها بالدرجة الأولى، كما توصي الدراسة بتخصيص إدارات لمراقبة المحتوى الإلكتروني المقدم للأطفال، مع معاقبة المخالفين بشدة، وإنتاج محتوى تثقيفي لتحذير المجتمع عن أخطار استغلال الأطفال على منصات الفيديو، خاصة «تيك توك».