بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، أما السُّنة فلا نثق في سندها ولا متنها!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
لقد ظهر في القرن الثاني للهجرة الكثير من الفرق والمذاهب، وطرحت بعض الآراء والأطروحات التي مزقت الأمة وشتتت وحدتها وأضاعت أحكام دينها التي كان عليها جيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وكان من بين هذه الفرق فرقة تدعو إلى الاحتكام إلى القرآن وحده، دون اعتبار للسُّنة، لأن القرآن كما يدَّعون هو كلام الله المنزل الشامل والمفصل لكل شيء، محتجين بذلك على بعض الآيات القرآنية، والتحليلات العقلية.
وكان للإمام الشافعي يرحمه الله باع طويل في مناقشة هذه الأفكار والمزاعم في كتابه «الأم» الذي جاء فيه حوار مطول بين الشافعي ومُنكر للسُّنة الذي استسلم في النهاية لقول الإمام الشافعي وقبول الحق.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفئة من الناس في قوله: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه»(1).
وقضى علماء الإسلام على هذه الأفكار الضالة بعد أن وقفوا لأصحابها بالمرصاد.
إلا أن هذه الأفكار أطلت برأسها مرة أخرى في أواخر القرن الثامن عشر على يد فئة ضالة أنكرت حجية السُّنة النبوية كخطوة من خطوات الشيطان على طريق إنكار حجية القرآن الكريم نفسه.
ظهرت هذه الفئة في شبه القارة الهندية بزعامة غلام نبي المعروف بـ«عبدالله جَكْرَالَوِي»(2)، وكان من أبرز دعاتها مع آخرين ساعدوه في ذلك، وسموا أنفسهم باسم «أهل القرآن»، وقد ساعدت على قيام هذه الفئة عدة أسباب، أهمها:
1- المناخ الذي هيأته حركة السيد أحمد خان(3).
2- الاستعمار بأساليبه المختلفة حيث كان الإنجليز يسيطرون على الهند وباكستان.
3- الهزيمة النفسية لبعض المسلمين أمام الحضارة الغربية.
والتقط العلمانيون في الشرق والغرب هذه الأفكار وبثوها في كتبهم وبرامجهم التي يملؤون بها القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي!
علاقة القرآنيين بالمستشرقين
وهناك علاقة وثيقة بين هؤلاء القرآنيين والمستشرقين؛ حيث إنهم يشتركون معاً في كثير من العقائد والتصورات.
من هذه الأباطيل التي أفرزتها المراكز الاستشراقية وعناصرها وتبعها مجموعة من بني جلدتنا يدَّعون الدفاع عن الإسلام:
أولاً: تفسيرهم لقوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 38)، وقوله جل وعلا: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89).
أي أن القرآن قد احتوى الدين كله أحكامًا ومعاملات وعبادات بشكل مفصل وواضح، فلا يحتاج هذا القرآن إلى شيء آخر كالسُّنة مثلاً، وإلا لم يكن هذا الكتاب بياناً وتبياناً لأمور الدين كلها.
وهذا تفسير في غير موضعه، لاحتواء القرآن الكريم على كثير من الأحكام العامة والقواعد الكلية؛ إلا أنه ترك كثيرًا من الأحكام مجملة، وترك بيانها وتفسيرها للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر بعد ذلك المؤمنين باتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته، فجاءت آيات كثيرة تحث على ذلك وتدعو الأمة إلى الالتفاف حوله، وهذا لا ينافي مطلقًا أن يكون القرآن حجة و والسُّنة أيضًا حجة، لأن ما يرد في القرآن قد يرد في السُّنة على سبيل التأكيد والأهمية، وقد يأتي في القرآن أحكام تحتاج إلى البيان والتوضيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44)، ورُوي أن عمران بن حصين كان جالسًا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدْنه فدنا، فقال: أرأيت لو وُكِلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعًا وصلاة العصر أربعًا والمغرب ثلاثًا تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وُكِلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعًا والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أي قوم خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن(4).
ثانيًا: تفسيرهم لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، بأن الآية دليل على أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن فحسب دون السُّنة النبوية، فلو كانت السُّنة حجة لتكفل الله بحفظها أيضًا.
وهذا التفسير يتوافق مع أقوال كثير من المستشرقين الذين يثيرون الشبه والأباطيل حول ظنية السُّنة، وأنها تعرضت للضياع والزيادة والنقصان، كما تعرضت للوضع والتحريف حسبما كانت تمليه الظروف السياسية للأمراء والخلفاء، وهذا يتوافق تمامًا مع قول المستشرق اليهودي برنارد لويس حيث يقول: «ثمة دوافع للتحريف المتعمد؛ لأن الفترة التي تلت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم شهدت تطورًا شاملاً في حياة المجتمع الإسلامي، فكان تأثر المسلمين بالشعوب المغلوبة بالإضافة إلى الصراعات بين الأسر والأفراد كل ذلك أدى إلى وضع الحديث»(5).
ونحن نتساءل: كيف يقال: إن حفظ الله لكتابه يعني عدم حفظه لسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهل يُفسر الذكر بالقرآن فحسب، أم هو الدين الإسلامي كله بما فيه السُّنة النبوية المطهرة؟ وكيف يفسر قوله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)؟ وأهل الذكر هم علماء الأمة الربانيون الذين حفظ الله على أيديهم هذا الدين من التحريف في كتابه العزيز وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذه من جهة، أما من الجهة الأخرى؛ فقد وردت كلمة «الذكر» في مواضع أخرى من القرآن الكريم، وهي تشير إلى إبطال تفسير هؤلاء المغرضين، فهذه الآية الكريمة (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44)، دليل على أن من أهم مهام الرسول صلى الله عليه وسلم توضيح أمور الدين للناس ابتداء من العقيدة وانتهاء بأدق الأحكام والآداب.
ولو سردنا أحكام الدين التي تحتاج الأمة إلى بيانها وتفصيلها من القرآن لاحتاج ذلك إلى حيزٍ واسعٍ من البحث، ولكن نشير إلى بعض تلك الأحكام والفرائض بشيء من الاختصار:
فالصلاة التي جاءت في القرآن مجملة دون تفصيل؛ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة: 43)، بحاجة إلى بيان كيفية أدائها بالأقوال والحركات، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الوحيد الذي يوضح للأمة هذه الكيفية.
وكذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: 97)، فلولا السُّنة لاختلط كيفية أداء هذا النسك العظيم بالشركيات وأهواء الناس، وكل واحد يؤديه حسب فهمه الخاص، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم علَّم الأمة هذه الكيفية في حجة الوداع، وقوله للصحابة: «خذوا عني مناسككم»، فالسُّنة بوصفها تبين وتوضِّح الأحكام المجملة في القرآن، إلا أنها تؤدي دورًا مهمًا في وحدة الأمة وترابط أبنائها، بأداء العبادات بصورة واحدة لا تمايز لأحد على آخر.
هذا ما تقوله هذه الطائفة التي تُسمى بـ«القرآنيين»، وقد صارت أفكارهم عقيدة لدى كثير من العلمانيين الذين تغربوا أو تشرقوا أو «تأمركوا»، أو احتضنتهم المراكز الاستعمارية والاستشراقية، وتأثروا بهم في جميع مجالات الحياة ليس في الجانب العقدي فحسب؛ بل تغلغل هذا التأثير في وجدانهم فغيّر نظرتهم للحياة اقتصادياً وثقافياً وسياسياً(6).
___________________________
(1) سنن أبي داود، برقم (4604)، ص651، وسنن ابن ماجه، وجامع الترمذي، ومسند أحمد.
(2) عبدالله بن عبد الله الجَكْرَالَوِي، ولد في حدود سنة 1830م، بدأ دراسته على يد والده، ثم انتقل إلى دلهي لدراسة الحديث، وبعد عودته أصبح من شيوخ أهل الحديث، ثم انحرف في أواخر حياته بسبب شبهة ألقيت عليه في الحديث، فزعم أن القرآن وحده هو الموحى به من الله، وأن ما سواه ليس بوحي، وأسس جماعة أهل الذكر والقرآن، وكان يجيد العربية، هلك سنة 1914م، انظر: انظر: «القرآنيون ونشأتهم» لعلي زينو، ص 43.
(3) السيد أحمد خان، ولد في مدينة دلهي في أكتوبر 1817م، بدأ دراسته بالقرآن الكريم، ثم تعلم العربية والفارسية، ثم درس العلوم الدينية، التحق للعمل بشركة الهند الشرقية، وكان ذلك بداية اتصاله بالإنجليز الذين أعجبوا بذكائه وطموحه، ورأوا فيه ضالتهم التي يبحثون عنها، ومنذ اللحظة الأولى أعلن ولاءه لسادته الإنجليز.
(4) أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب «الكفاية في علم الرواية» (1/ 15).
(5) الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، مازن بن صلاح مطبقاني، (1/ 157).
(6) «الاستشراق وموقفه من السُّنة النبوية»، فالح بن محمد بن فالح الصغير، (1/ 91:84)، بتصرف