ما أصعب أن تجد أباً يبحث عن ابنه بين جثامين الشهداء، فملامحه المفجوعة عجزت أن تعلم أي جثمان ممكن أن يكون نجله فلم يعد للعديد من الجثامين ملامح للوجوه للتعرف عليها.
حاول أن يسترشد من خلال قميصه، لكنه عجز أيضاً، فقد تغير لونه وأصبح أحمر امتزجت به دماء الشهداء.
أمام هذا المشهد في مستشفى الشفاء وسط مدينة غزة كان من الصعب الحديث ولو بكلمة واحدة، فالأمر مهول لأب يبحث عن فلذة كبده ولا يستطيع التعرف عليه، فصواريخ الاحتلال قد غيّرت الكثير من الملامح.
ورغم بحثه لساعات طويلة في محاولة أن يستدل بأي شيء عن نجله، فإنه عجز عن ذلك، مما زاد ثقل الحزن في جسده المنهمك، إلا أنه حاول أن يستجمع قوة خطوات قدميه المتأرجحة ليسير بهما إلى المستشفى الإندونسي في شمال غزة لعله يجد ما تبقى من جثمان جسد نجله.
أسلحة الفوسفور
وغيره الكثير من الذين لم يتعرفوا على جثامين أبنائهم الشهداء، وهذا يدلل على بشاعة المحتل في استخدام الصواريخ التي وصفت بأنها محرمة دولية، إضافة إلى استخدامه القنابل الفسفورية التي تسبب حروقاً في الجسد، تصل إلى العظام، وكل قذيفة منها تقتل كل كائن حي حولها حتى مدى 150 متراً، واستنشاق غازها يؤدي إلى ذوبان القصبة الهوائية، والرئتين.
وتبعاً لمعاينة الطواقم الطبية لأجساد ضحايا العدوان الصهيوني تبين تعرضها للتمزق أو بتر الأطراف وجروح معقدة أو حروق مختلفة وتهتك للأحشاء الداخلية، مما يشير إلى تعمد الاحتلال استخدام القوة المفرطة لقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والمواطنين مما يستوجب المحاسبة الدولية على جرائمه.
الممرضة المفجوعة
وبينما كانت إحدى الممرضات المنهمكة في عملها، وهي تقوم في دورها في معالجة الجرحى لساعات طويلة، كانت الفاجعة لها أن تتلقى أثناء عملها خبر استشهاد زوجها، حيث أصيب قلبها في الفاجعة، فهي لم تتخيل لحظة واحدة أن تكون سيارة الإسعاف القادمة تحمل زوجها شهيداً.
وكثير ما كانت الطواقم الطبية في مستشفيات غزة تصاب بالصدمة أثناء أعمالهم في استقبال سيارات الإسعاف بأن يكون الجرحى القادمون والشهداء هم من عائلتهم.
وكل شيء في غزة مُستهدف من قبل الاحتلال حتى المستشفيات وسيارات الإسعاف، والأطباء والمسعفون لم يسلموا من الاستهداف المباشر والمتعمد مما أدى إلى استشهاد العديد منهم خلال عملهم في المستشفى، منهم الطبيب أحمد الحوراني، والطبيب سائد درابيه، وغيرهم من الذين لم يتم التعرف عليهم بعد، واستشهاد وإصابة عدد كبير من الكوادر الطبية خلال تنقلهم لإسعاف الجرحى.
هذا الأمر زاد من معاناة القطاع الصحي في غزة المحاصرة منذ أكثر من 17 عاماً، الأمر الذي جعله يعاني من نقص حاد في العديد من المستلزمات والأدوات الطبية.
وتعتبر المنظومة الصحية منهكة أصلاً بفعل استمرار الحصار، وما نجم عنه من نقص حاد في الأدوية بنسبة 44%، ونقص من المستهلكات الطبية بنسبة 32%، ونقص من لوازم المختبرات وبنوك الدم بنسبة 60%، إضافة إلى تهالك المولدات الكهربائية ونقص الوقود وتهالك منظومة الإسعاف والطوارئ.
إبادة العائلات
حينما تنقلت بين أحياء غزة وجدت أن معالمهم اختلفت كثيراً؛ حيث الدمار الهائل الذي غير كل ملامح المنطقة، فكان التنقل بها صعباً جداً جراء تدمير الشوارع المحيط بركام المباني السكانية، فكثير من المناطق أبيدت في أحشائها العشرات من العائلات التي محيت من السجل المدني زاد عددها على 150 عائلة تم هدم بيوتهم على رؤوسهم دون سابق إنذار.
ومنها عائلة أبو قوطة القاطنة في منطقة الشابورة بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، حيث تم انتشال أجسادهم التي تزيد على 24 فرداً من العائلة كانوا عبارة عن أشلاء لأطفال ونساء ورجال تم قصف المنزل على رؤوسهم بدون سابق تحذير.
دفنت قبل أن تراها
ومن الألم الذي حملته الطبيبة نسيبة زاهر التي عادت من عملها إلى البيت وقبل أن تأخذ قسطاً من الراحة بعد عمل ساعات طويلة في معالجة الجرحى، تم إخبارها بإخلاء المنزل؛ لتخرج مسرعة وهي تحمل أطفالها بحثاً على مكان آمن، وما أن وجدت مكاناً تحتمي فيه عند أحد أقاربها حتى جاءت الفاجعة على قلبها هدم منزل عائلتها على والدتها وشقيقها؛ مما أدى إلى استشهادهما، ونظراً لخطورة التنقل، فقد تم دفنهما دون وداعهما الأمر الذي زاد حرقة قلبها رغم المحاولات العديدة للوصول إليهما.
إعلام في عين الصاروخ
الجميع كان مستهدفاً، فلم يعد هنالك أمان في التحرك أو التنقل، ورغم ذلك تجد الإعلام بمثابة العين التي تحاول جاهدة نقل جرائم الاحتلال «الإسرائيلي»، الأمر الذي جعل الصحفي سعيد الطويل، ورفقاءه الصحفيين إبراهيم لافي، ومحمد جرغون، ومحمد الصالحي، وأسعد شملخ، ومحمد صبح، وهشام النواجحة، وغيرهم تحت مرمى نيران العدو.
وخلال عملهم في الميدان، تم تحذير أحد الأبراج السكنية بالقصف الأمر الذي جعله مع رفقائه يحتمون بجوار برج لم يكن ضمن التحذير، إلا أن العدو كان ماكراً فعمل على قصف البرج الذي لم يتم تحذيره؛ مما أدى إلى هدم البرج على رؤوس ساكنيه والصحفيين.
معالم أحياء غزة
من أصعب اللحظات حينما تشعر أنك في أمان والأمر يكون مختلفاً، فقبل أن تلتقط أنفاسك في محاولة للحصول على استراحة قصيرة تحاول أن ترتب بها أفكارك، تجد صوت الصواريخ قد أيقظتك، لتسرع بالخروج من المنزل، وتسير في الشوارع المهدمة دون أن تعرف إلى أن تذهب، فكل مكان يعتبر محل استهداف.
شعرت بتعب كبير وخوف زاد من ضربات قلبي حينما كنت أتنقل بين أحياء غزة التي أصبحت غريبة المعالم، فالدمار أكبر مما يتصوره العقل، فأحياء كاملة تم تدميرها بالكامل، وزاد هذا الألم حينما رأيت عدداً من مباني جامعتي الغالية الجامعة الإسلامية، قد تم تدميرها فكانت الجامعات والمدارس محل استهداف.
وحتى المساجد لم تسلم من هذا العدو المتغطرس، فقد تم تدمير عدد كبير منها؛ مسجد أحمد ياسين، والسوسي، واليرموك، وغيرها.
معاناة صعبة
وهذه الحرب الشرسة زادت من معاناة قطاع غزة المحاصر؛ حيث إنه بالأصل يعاني من الفقر والبطالة وانقطاع الكهرباء، الأمر الذي زاد المعاناة على كاهله، خاصة أن العديد من العائلات اليوم أصبحت بلا مأوى، وتعاني من نقص حاد في الماء والطعام، وزيادة في انقطاع التيار الكهربائي والاتصالات.
ورغم هذه المعاناة، فإن أهل غزة يحاولون قدر المستطاع مساعدة بعضهم بعضاً، حتى وإن أدى ذلك إلى أن يتقاسم الجار جاره في رغيف الخبز ليطعم أطفاله.
قد تكون أناملي قد توقفت عن كتابة القليل جداً من مشاهد الحياة الغزية في الحرب الشرسة على قطاع غزة التي أدى فيها إلى استشهاد أكثر من 2600 مواطن، وإصابة أكثر من 9000 مصاب، إلا أن الحرب وأعداد الشهداء والجرحى ما زالت في ارتفاع.