الإنفاق من أنْفَقَ المال: أي صَرَفه وأذهبه. قال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الأنفال: 63]، وقال سبحانه: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]. و(مِن) إذا ذُكِرت مع الفعل تَقْصُره على بعض المال. والنَّفَقة: ما يُنْفَق من الدراهم وغيرها. والفعل (أنْفَقَ) وما تَصَرَّفَ منه كنَفَقة ونفقات هي بمعنى إخراج مال من الحوزة، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] (1).
ومبدأ الإنفاق: يعني إخراج المال وبذله كُلّه أو بعضه، وصرفه وإذهابه في الحاجات الضرورية وغيرها من وجوه الخير. ويدخل فيها الجهاد بالمال والزكاة الواجبة، والصدقات النافلة، والوصية والهدية والوقف، والإنفاق على النفس والأهل. وهو مبدأ مرتبط بالمال عصب الحياة وفتنتها، كما قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ} [التغابن:15]، وهذه الفتنة يعقبها سؤال المرء يوم القيامة، عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، قال ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» (2).
من هنا تأتي أهمية عناية الإسلام بإنفاق المال في وجوه الخير وفيما ينفع المرء في دنياه وآخرته، فأكد الشرع على حق الله تعالى فيه وحق الناس، وحَرّم كَنْزَه، ونهى عن صرفه في الحرام، وكره إضاعته والإسراف فيه، قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» (3).
وقد حثّ القرآن الكريم على الإنفاق في وجوه الخير، فوردت (67) آية تضمنت فعل (أنْفَقَ) بتصريفاته، و(32) آية تضمنت الأمر بزكاة المال، و(13) آية في صدقة المال (4).
أما الأحاديث النبوية في الإنفاق والصدقة، فهي كثيرة، نذكر منها:
– أخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه-، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ»، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ (5).
– وعن جَرِيرٍ بن عبد الله – رضي الله عنه- قال: كُنَّا عِنْدَ رسول الله ﷺ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قال: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَار (6) أو الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رسول الله ﷺ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [سورة النساء: 1]، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [سورة النساء: 1]، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [سورة الحشر: 18]، ثم قال: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قال- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». قال: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قال: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رسول الله ﷺ يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رسول الله ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (7).
ويتضمن الحديث الثاني مشهدًا تقويميًّا نبويًّا، وُجِّهَ من خلاله الصحابة الكرام – رضي الله عنهم- لإجراء مراجعات ذاتية مع أنفسهم بهدف حلِّ مشكلة الفئة الفقيرة المحتاجة. ومن ظاهر الحديث؛ فإن التقويم التربوي العمليَّ بدأ عندما تغير وجه الرسول الكريم، عندما لاحظت عيناه الكريمتان شدَّةَ فقر وحاجة النفر القادمين إليه من مضر، فأبدى اهتمامه ولم يهمل الأمر، فدخل غرفته وخرج؛ لعله يلقى شيئًا من زيادة نفقة أو نحوه. ثم خصَّصَ النبيّ الكريم ﷺ خطبة لمعالجة هذه الحالة، فصعد المنبر ومهَّد بتلاوة آيات مناسبة للموقف، الآية الأولى: كانت فاتحة سورة النساء التي تذكِّرُ بالتراحم بين البشر عمومًا؛ فهم خُلقوا من نفس واحدة، مما يستلزم تضامنهم وأداء حقهم. والآية الثانية: من سورة الحشر والتي حضَّت على مراجعة النفس والتفكر والتأمل فيما ادَّخره المرء ليوم القيامة من صدقة وأعمال صالحة.
ثم أقام النبيّ ﷺ للسامعين معيارًا للأداء المطلوب من الصدقة، وراعى ما بينهم من فروق في الإمكانات، فقال مسهلًا غير مشترط نوع الصدقة أو حجمها: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قال- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». وبذلك يكون قد حثَّهم ﷺ على مراجعة يقوِّمون فيها إمكاناتهم وما يستطيعونه من الصدقة ضمن معيار يسعهم جميعًا. وكانت أول استجابة هي الأهم في ذلك الموقف – كعادة الناس فهم يسيرون خلف الذي يقرع الجرس- حيث جاء رجل من الأنصار -رضي الله عنهم- يحمل صرة من مال كادت كفُّهُ تعجز عنها، بل قد عجزت، فلمَّا رأى الناس ذلك تشجعوا وتتابعوا يأتون بما تيسر؛ فتهلَّلَ وجه النبيّ ﷺ حين اجتمع أمامه كَوْمان من طعام وثياب.
وفي معرض تقويمه ﷺ لما جرى وثنائه على أصحابه – رضي الله عنهم- خصَّ المبادر الأول وبشَّرَه بقوله: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ». يقول الساعاتي معقبًا: والسُنّة هي كل عمل صالح فعله الإنسان واقتدى به غيره ففعل مثل فعله، فيكون للفاعل الأول مثل أجور من اقتدوا به في هذا العمل الصالح مهما كثر عددهم ما دام العمل مستمرًا، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. وفيه حثٌّ على الابتداء بالخيرات وسنِّ السنن الحسنة (8).
وقد جاءت نصوص القرآن والسنة تأمر بالإنفاق وتبني الدوافع له وتضع الحوافز للمنفقين، فجعلته دليلاً على الإيمان، وسبباً لرضا الرحمن، وطريقاً للفوز بالجنان، وباباً لمضاعفة الأجر والثواب، وسبباً في بركة المال ودعاء الملائكة – عليهم السلام-، كما وعد الله تعالى بتفريج كرب من فرّج عن الناس، وتيسير أمر من يسّر على معسرهم، والتجاوز عمن تجاوز عنهم. وفي المقابل فقد رهّبت النصوص من حبس المال وكنزه وحرمان الناس من حقهم فيه، ورتّبت على ذلك غضب الله تعالى وعذابه يوم القيامة، قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} [التوبة:34].
_________________________________
([1]) جبل: المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، ج4، ص2242
([2]) الترمذي: سنن الترمذي، باب في القيامة، ج4، 612، ح2417. وقال حديث حسن صحيح.
([3]) البخاري: صحيح البخاري، باب قوله تعالى “لا يسألون الناس إلحافاً”، ج2، ص124، ح1447.
([4]) عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص714، ص331، ص406.
([5]) مسلم: صحيح مسلم، كتاب اللقطة، باب استحباب الْمُؤَاسَاةِ بِفُضُولِ المال، ج3، ص1354، ح1728.
([6]) مجتابو النمار: جمع نمرة، وهي كساء من صوف مخطط. ومعنى مجتابيها: لابسوها.
([7]) مسلم: صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، ج2، ص704، ح: 1017.
([8]) الساعاتي: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، (9/ 154).
المدير التنفيذي في هيئة علماء فلسطين