يعاني عدد لا يستهان به من سكان العالم من أعراض الاكتئاب، حيث تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 121 مليون شخص حول العالم يقعون تحت براثنه، وقد تتعدد الأسباب المؤدية له ما بين ضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية، وكذلك أسرية، بالإضافة إلى أسباب مرضية.
وعلى الرغم من وجود هذه الصلة الوثيقة بين الانتحار والأمراض النفسية، وعلى رأسها الاكتئاب، وتليه أمراض أخرى مثل مرض اضطراب المزاج ثنائي القطبين، والهوس الاكتئابي، وكذلك الإدمان، فإن لحظة الانتحار تظل لحظة غامضة تتضافر فيها الأسباب التي تصل بالمرء لنقطة تنهار فيها قواه أمام هذا الخليط من الضغوط التي يعجز عن احتمالها.
وتشير التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى اتساع رقعة انتشار هذه الظاهرة، إذ يصل عدد المنتحرين سنوياً إلى ما يقرب من 703 آلاف شخص حول العالم، كما جاء الانتحار رابع أهم أسباب الوفاة في المرحلة العمرية ما بين 15 و29 عاماً على الصعيد العالمي أيضاً، وفق إحصاءات عام 2019م.
وحسب تقرير آخر صدر عام 2016م، فقد تم الإبلاغ عن 26 ألف حالة انتحار بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ مما يعني 4.8 حالات انتحار لكل 100 ألف حالة وفاة؛ أي أنه من بين كل مائة ألف شخص يموت 5 أشخاص تقريباً يزهقون أرواحهم بأيديهم.
مصر الأولى
كما تكشف الأرقام ازدياد هذه الظاهرة على مستوى الدول العربية بشكل ملحوظ، وتأتي مصر على رأس القائمة، حتى إنها ظلت لمدة 20 عاماً تقريباً منذ عام 1990 وحتى عام 2019م تحتل الصدارة قبل دول أخرى بها نزاعات مسلحة وحروب أهلية وانهيارات سياسية، ففي عام 2016م أقدم حوالي 3800 مصري على الانتحار، تلاها السودان بـ3205 حالات انتحار، ثم جاء اليمن بعدد 2335 حالة انتحار.
ولم يكن الوضع أسعد حالاً بالنسبة لباقي الدول العربية، فقد وصل عدد الحالات في الجزائر إلى 1300 تقريباً، بينما جاء العراق في الترتيب الخامس بعدد 1128 حالة انتحار، ولم يختلف الوضع كثيراً في السعودية؛ إذ وصل العدد بها إلى 1035 حالة انتحار من نفس العام، تبعها المغرب بـ1014 حالة انتحار.
أما عن أسباب هذا الارتفاع الهائل، فقد يعجز مصطلح «الاضطرابات النفسية» عن توضيح حجم الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الشعوب العربية، خاصة الشباب منهم.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن علاقة ارتباط قد تجمع بين الظروف الاقتصادية والنزاعات والتعرض للعنف، والسلوك الانتحاري، إلا أن هناك علاقة أخرى تنشأ بين بعض الفئات والانتحار، من أمثال اللاجئين والشواذ ومزدوجي الميل الجنسي والسجناء.
مواجهة الانتحار
وقد سعى بعض المشرعين لوضع قوانين قاسية لتجريم الانتحار تنفذ على من يفشل في محاولة إنهاء حياته، إلا أن هذا الطرح قد يكون غير رادع على أرض الواقع، ولعل اتخاذ بعض التدابير للوقاية من الوصول إلى هذه المرحلة قد يكون أكثر جدوى، ومنها على سبيل المثال خلق حياة اجتماعية نشطة خاصة بين المراهقين، وملاحظة من لديهم ميول انطوائية أو اكتئاب قد يفضي إلى سلوك انتحاري، والسعي لإدارة الأمر مع مختصين.
كذلك من المهم رفع الحرج الاجتماعي عن طلب المشورة النفسية من طبيب متخصص، وتوجيه الإعلام للتركيز على أن اللحظات العصيبة تمر وتنفرج الأزمات، أو على الأقل تتبدل المشاعر حيالها، والتشديد على منع تداول المواد التي تساعد على الانتحار، والأهم هو الاحتواء الاجتماعي لذوي الأزمات على اختلافها، والتنسيق بين قطاعات المجتمع المعنية لوقف نزيف الأرواح المتسارع.
ولعل حالات الانتحار بين المشاهير تنبئنا بأن الاحتواء الاجتماعي هو الحضن الأول للحماية من الوقوع فريسة لمشاعر الاكتئاب القاتلة التي لم يتصد لها النجاح أو الشهرة أو ارتفاع مستوى المعيشة المادي.
ومن أمثال هؤلاء المشاهير داليدا المغنية المصرية ذات الأصول الإيطالية التي أقدمت على إنهاء حياتها بالانتحار بعد أن تمكن منها الاكتئاب، وكتبت في رسالة لها: «سامحوني.. الحياة لم تعد تحتمل»، وقد تناولت جرعة زائدة من الأقراص المهدئة لتنهي حياتها في عام 1987م.
وهناك البطل الأولمبي الأمريكي جيريت بيترسون الذي اشتهر في التزلج بحركة متميزة تعرف باسم «الإعصار» يقوم خلالها بـ3 قفزات و5 التفافات حتى لقب بـ«السريع»، ورغم نجاحه لم يجد بُداً من الإكمال في هذه الحياة التي سيطر عليه فيها الاكتئاب، وأطلق على نفسه النار، ومات في عامه الـ29.
ويضم أرشيف الانتحار بين المشاهير الممثل الكوميدي الأمريكي روبن ويليامز، فقد قرر قطع شريان يده اليسرى ثم شنق نفسه بحزام، بعد أن سيطر عليه الاكتئاب ولم يجزم أحد بالسبب الحقيقي الذي دفع بالنجم السينمائي الحاصل على جائزة «الأوسكار» إلى الانتحار عام 2014م.
فقط نؤكد ثانياً، الاحتواء؛ نعم احتواء من حولنا للتخلص من كل الهموم، وما يحملونه بين صدورهم من آلام قد تصل بهم إلى تلك النهاية التي لا عودة منها مرة أخرى إلى الحياة.