يقول إريك فروم، في كتابه «نتملك أو نكون»: النزوع للاستهلاك هو نزوع لابتلاع العالم بأسره والإنسان الاستهلاكي هو الرضيع الذي لا يكف عن الصياح في طلب زجاجة الرضاعة، ويتضح هذا في الظواهر المرضية خاصة مثل إدمان المخدرات والخمر، ويقول كذلك: إن السيارات والتلفاز والسياحة والجنس هي الموضوعات الأساسية للنزعة الاستهلاكية المعاصرة.
كما أن الاستهلاك هو أحد أشكال التملك وربما هو أكثرها أهمية في مجتمعات الوفرة الصناعية المعاصرة، والاستهلاك عملية لها سمات متناقضة؛ فالاستهلاك عملية تخفف القلق، لأن ما يمتلكه الإنسان خلالها لا يمكن انتزاعه، ولكن العملية تدفع الإنسان إلى مزيد من الاستهلاك؛ لأن كل استهلاك سابق سرعان ما يفقد تأثيره الإشباعي، وهكذا، فإن هوية المستهلك المعاصر تتلخص في الصيغة الآتية: أنا موجود بقدر ما أملك وما أستهلك.
في القرن التاسع عشر الميلادي، كان كل شيء يُقتنى يصبح موضع رعاية ويُعتنى به، ويستخدم إلى آخر حدود الاستخدام، كانت الأشياء تُشترى ليحافظ عليها وكأن شعار ذلك القرن ما أجمل القديم!
أما اليوم، فإننا نشاهد تأكيداً دائماً على الاستهلاك لا على الحفظ، أصبحت الأشياء تشترى لكي ترمى، فأياً كان الشيء الذي يشترى سيارة أو ملابس أو آلة من أي توع، فإن الشخص سرعان ما يمل منه، ويصبح تواقاً للتخلص من القديم وشراء آخر طراز، وتلك هي الدائرة الخبيثة، دائرة الاستهلاك – الشراء، وكأن شعار اليوم ما أجمل الجديد!
وربما كانت السيارة الخاصة هي أهم مثل للظاهرة الاستهلاكية – الشرائية، فهذا العصر يستحق أن يسمى عصر السيارة، حيث بُني اقتصادنا حول إنتاج أو تركيب السيارات، وشرائها وبيعها.
وقد دار كثير من الجدل حول: هل يملك الإنسان أو لا يملك؟ ويعني هذا الخيار بين حياة الزهد وحياة اللا زهد، وتتضمن الأخيرة المتعة واللذة غير المحدودة ولكن هذا الاختيار يفقد معظم معناه إذا ركزنا على كل سلوك منفرد على حدة، ولم نلتفت إلى الموقف أو الاتجاه الذي يستند إليه السلوك عموماً، فالزاهد بانشغاله الدائم بالابتعاد عن المتعة ربما لا يكون سلوكه إلا محاولة لتجاهل رغبات جامحة في التملك والاستهلاك، صحيح أن الشخص الزاهد يمكن أن يقمع هذه الرغبات، ولكن محاولة قمع الرغبة في التملك والاستهلاك ربما تنطوي على حقيقة أن الشخص ليس أقل انشغالاً بهما من غيره.
وقد صدر في السنوات القليلة الماضية عدد ضخم من الكتب، تنادي بإخضاع الاقتصاد لاحتياجات الناس من أجل ضمان مجرد البقاء أولاً، ومن أجل تحسين نوعية حياة الناس ثانياً.
ويتفق معظم المؤلفين على أن الزيادة المادية للاستهلاك لا تعني بالضرورة تحسيناً لنوعية الحياة، وأن تغييراً روحياً وآخر أخلاقياً في بنية الشخصية يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب مع تغييرات اجتماعية ضرورية، وأنه إذا لم نكف عن تبديد مواردنا الطبيعية وعن الإخلال بظروف البيئة الملائمة لاستمرار بقاء النوع البشري، فإنه يمكن رؤية الكارثة في غضون سنوات قليلة قادمة.
ولذا، يبيّن شوماخر، في كتابه «الصغير هو الجميل»، أن إخفاقاتنا هي نتيجة نجاحاتنا، ويدعو إلى وضع التقنية في خدمة الاحتياجات الحقيقية للإنسان، يقول شوماخر: الاقتصاد كمحتوى للحياة، مرض قاتل؛ وذلك لأن التنمية اللانهائية لا تناسب عالماً محدوداً، وقد علمتنا -والكلام ما زال لشوماخر- رسائل المعلمين الكبار للإنسانية أن الاقتصاد يجب ألا يكون محتوى الحياة، والواقع المعيش اليوم يدل بوضوح على استحالة ذلك.
إن مهمة الدولة هي أن تحدد معايير الاستهلاك الرشيد في مواجهة الاستهلاك المرضي أو الاستهلاك الاعتباطي، ذلك لأنه لا يمكن أن يتجه الناس للاستهلاك الرشيد إلا إذا أحس عدد متزايد منهم بالرغبة في تغيير أنماطهم الاستهلاكية وأساليبهم الحياتية، ولن يكون هذا ممكناً إلا إذا عرض على الناس نمط استهلاكي أكثر جاذبية وإقناعاً من النمط الذي اعتادوا عليه، ولن يحدث هذا في يوم وليلة، كما لن يحدث بمرسوم أو تشريع، وإنما الأمر يتطلب عملية تربوية وتعليمية طويلة الأمد.
إننا لن نستطيع أن نحقق الاستهلاك الرشيد إلا إذا وضعنا حدوداً تحد من حق المنشآت الإنتاجية الكبيرة في جعل الأساس الوحيد للإنتاج هو الربح والتوسع.
إن المهمة تتلخص في بناء اقتصاد صحي من أجل أناس أصحاء والخطوة الأولى الحاسمة لتحقيق هذا الهدف هي توجيه الإنتاج من أجل نوع جديد من الاستهلاك الرشيد.
لقد شاهد التاريخ أحقاباً طويلة ظلت أثناءها نخبة قليلة العدد تتمتع وحدها بأشكال من الملذات والمتع الفارغة، غير أن هذه القلة ظلت قادرة على الاحتفاظ بقواها العقلية؛ لأنها كانت تعرف أن السلطة في قبضتها، وأن عليها أن تفكر وأن تعمل للمحافظة عليها، أما اليوم فقد أصبحت حياة الاستهلاك الفارغة تمارسها الطبقة المتوسطة كلها، بينما هي مجردة من أي سلطة سياسية أو اقتصادية ولا تحمل أي مسؤولية شخصية إلا في أضيق الحدود.
لقد أصبحت مزايا السعادة الاستهلاكية معروفة لدى أغلبية المواطنين في الغرب، غير أن عدداً متزايداً من المستفيدين منها بدؤوا يدركون أنها لا تكفي، أي بدؤوا يدركون أن الاقتناء الكثير لا يعني الحياة الطيبة الهنيئة.
ولذا جاء في القرآن الكريم دعوة الحق تبارك وتعالى إلى أن ينبذ البشر طريق الجشع والتملك؛ (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ {1} الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ {2} يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة)، وكذلك دعوة إلى أن يسلكوا طريق الحياة الطيبة، وإلى أن يستخدم الإنسان عقله وبصيرته؛ (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10).
_________________________
للتواصل: zrommany3@gmail.com.