حينما تشاهد صور الغزاوي محمد وعروسه ياسمين، وقد تزوجا في مدرسة تؤوي نازحين، في مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، ستشعر بمدى روعة الشعب الفلسطيني، وقدرته على الصمود والتعايش مع الصعاب، بل وقهر المستحيل.
حينما ترى قصة حب تنبت بذرتها تحت القصف، وزخات الرصاص، ودانات المدافع، وصواريخ العدو، ستعلم يقيناً أن هذا الشعب سيبقى يقاوم ويقاوم، حتى تحرير الأرض والعرض والمقدسات.
وحينما تجد عروساً تتخلى عن فستانها الأبيض، وذهبها، وزينتها، ومنزلها، وتتجهز بالقليل وما تيسر، فإنك ستنحني إجلالاً لتلك المرأة التي غضت الطرف عن زينة الدنيا، وليلة العمر، لتلتقي بحبها العفيف، برباط مقدس وميثاق غليظ.
إن هذه المرأة العظيمة لهي أقدر وأقوى من ألف رجل، وقد قررت الارتباط بـ«مشروع شهيد»، قد يناله شيء من غدر العدو الغاصب، فإن لم يكن، فإنها ارتبطت بمن لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، لا لشيء سوى لإعلاء كلمة الله، وراية المقاومة والصمود.
وهذا الرجل الذي لم يفعل مثل أقرانه الشباب، من تجهيزات واحتفالات ولوازم الفرح، وغيره، مما تتباهى به مجتمعاتنا العربية، إنما يريد أن يؤسس بيتاً مسلماً، ويضع بذرة طفل ينمو في الأحشاء، سيرفع راية التحرير يوماً ما.
إن هذا الشاب المقدام لهو أنقى وأفضل عند الله من الآلاف ممن يبحثون عن زخرف الحياة الدنيا، والأثاث الفخم، وقاعات الأفراح في فنادق الـ5 نجوم، أو ممن يقضون الليل هائمين على الوسادات الخالية يبحثون عن الحرب الحرام.
نعم، إنهم يتزوجون ويتناسلون لكي يقاومون، ويصمدون، ويقاتلون، وقد قُتل منهم أكثر من 23 ألف شهيد، ونحو 60 ألف جريح، فما زادهم ذلك إلا صبراً واحتساباً، وإيماناً وتسليماً.
ربما تفتح فاهك، وأنت ترى محمداً وياسمين وقد تزوجا داخل مطبخ مختبر العلوم بمدرسة نجت من القصف، وكأن المكان لا شيء لهم، ولا يضاهي لحظة حب وعفاف وزواج مبارك بمشيئة الله.
لقد أبرقوا رسالة للعدو، بأنهم سيعيشون، وسيفرحون، وسيحولون الألم إلى نصر، وقد سطروا ملحمة تاريخية بكل المقاييس، بعدما صمدوا للشهر الرابع على التوالي أمام جيوش الطغيان مجتمعة، تؤازرها قطعان الخزي والذل والعار.
محمد وياسمين تزوجا بين من تبقى من عائلتهما وبعض النازحين، مع قليل من الحلوى والزغاريد، في رسالة تحد، بأنهم صامدون لا يخشون الموت، ولا يهابون المحتل، الذي سينكسر رغماً عنه، أمام إرادة غزة الأبية، غزة مقبرة الغزاة.
إن حرب الإبادة التي تجري وسط تواطؤ دولي، وصمت عربي وإسلامي مخز، وقد صادرت الحلم والبيت والاستقرار، لن تحول دون إرادة فلسطينية تريد قهر الأوجاع، واقتناص لحظة فرح وأمل في نصر قريب.
«من رحم المعاناة تولد الفرحة»، كان العرس البسيط، والفرحة الممزوجة بالألم، لكنها تحمل في طياتها بارقة أمل للخروج من المأساة التي تحياها غزة، ورسالة مفادها أن المدافع والصواريخ لن توقف حقنا في الحياة والبقاء، ولن تزحزحنا عن ترابنا ومقدساتنا وأقصانا.
لقد فقد العروسان الكثير من أقاربهما وأصدقائهما في القصف الذي طال شمالي القطاع، فنزحا إلى الجنوب، بعدما خسرا منزلهما الذي كان من المفترض أن يعيشا فيه بعد الزواج، بسبب القصف الصهيوني، لكنهما قررا مواصلة الطريق.
ليست مجرد قصة زواج عابرة، أو حدث عادي، لا، بل لحظة مهمة وذات دلالة، ورسالة انتصار على الألم والدم، بل قرار غزاوي باستمرار الحياة رغم النزوح والتدمير والمجازر والقصف بآلاف الأطنان من القنابل والذخائر المحرمة دولياً، في حرب هي الأكثر دموية خلال القرن الحادي والعشرين.
إن الأمل هو بداية الانتصار؛ لأن العدو يراهن على اليأس والانكسار، ويأمل في لحظة استسلام، تُنهي مقاومة شعب يتشبث بحريته ووطنه، بل زاد وأطلق الطوفان، وزلزل العالم أجمع، في يوم مشهود.
بل إنهم يعدون بتكرار الطوفان، والعودة من جديد لغزو مغتصبات العدو، ودحر جنوده، وتدمير ثكناته، وتحرير أسراهم، والعودة إلى القدس الشريف، والصلاة في المسجد الأقصى المبارك، لتتحرر فلسطين من النهر إلى البحر.
شاهدوا عرس محمد وياسمين، وتفقدوا بكل علامات الاستفهام، ماذا فعلا؟ ولماذا؟ وأين؟ وكيف؟ لتجدوا الإجابة: إن في غزة الأبية أملاً لا يموت، أملاً في العودة، وأملاً في بداية حياة جديدة، وأملاً في البقاء، وأملاً في المقاومة، وأملاً في الانتصار، ولو بلحظة فرحة، أو نطفة في رحم حلال، تنبت بإذن الله، فتكون شجرة طيبة، أوراقها غزاوي أصيل، وقسامي صامد، ومجاهد فلسطيني، يرفع راية «إنه لجهاد.. نصر أو استشهاد».