لعل المتابع للصمود الكبير الذي واجه به أهل غزة تلك الحرب الصهيونية الوحشية الهمجية التي يعجز الكثير عن متابعة مشاهدها عبر شاشات التلفاز من شدة قسوة وبشاعة ما يجري هناك؛ يجعلنا نفهم معنى الثبات في مواجهة المحن.
إن صمود سكان القطاع في وجه القتل وهدم البيوت والتعذيب والمرض والجوع وشح المياه يبدو كأمر غير قابل للتصديق، لولا أن هذا هو ما يحدث بالفعل على الأرض.
لو أردنا نموذجاً حياً للصمود النفسي فسنجد آلافاً من أهلنا في فلسطين
إن مشهد المقاوم الذي جمع ما تبقى من طاقته حتى يستشهد وهو في وضع السجود، إذا جمع في مشهد واحد مع تلك الصغيرة التي تحكي عن استشهاد والدها بفخر شديد لأنه نال ما تمناه بتلك السيدة التي تصنع الخبز لصغارها على موقد الحطب وتخبر الجميع أنها صامدة لن تترك هذه الأرض؛ يشرح لنا بشكل تطبيقي معنى الثبات في مواجهة المحنة.
حتى هؤلاء الذين يبكون والذين يستصرخون ضمير العالم الأصم يقومون فقط بالتعبير عن بعض ما يشعرون به من ظلم وقهر وفقْد وألم، وهي مشاعر إنسانية طبيعية، لكنهم رغم ذلك صامدون، ومستمرون في الثبات، ومستمسكون بأرضهم، ويطلبون من الله الصبر.
فكيف تلهج الألسنة بالحمد في شدة المحنة والابتلاء؟ وكيف ترتفع الأصوات تذكر من يعاني من بدايات الصدمة بأننا راضون بقضاء الله فيستغفر ويسترجع؟
لو أردنا نموذجاً حياً للصمود النفسي فسنجد فيما يسلك أهلنا في فلسطين آلافاً من النماذج لرجال ونساء وأطفال يتمتعون بدرجة عالية من هذا الصمود، لسنا بحاجة لتصفح كتب التراث حتى نقدم نماذج إنسانية تحلت بالصمود النفسي في مواجهة المحن، فأمام أعيننا الآن آلاف الخنساوات، وآلاف الرجال الذين يسيرون على خطى الحسين، وأطفال نشؤوا كما نشأ أسامة بن زيد، وعبدالله بن الزبير، درس عظيم للأمة أنها ليست بعاجزة، وأن النساء لم يعقمن عن إنجاب مثل صلاح الدين، ولكنها سنن الله في النصر والفتح والتمكين والابتلاء.
القوة الإيمانية المفتاح الذهبي للصمود النفسي والثبات وقت المحنة
مفاتيح الصمود
القوة الإيمانية هي المفتاح الذهبي للصمود النفسي والثبات وقت المحنة، وسواء كانت المحنة فردية أو جماعية، غائرة في سراديب النفس أو ظاهرة للعيان، فإن قوة الإيمان هي من تمنح تلك الصلابة المرنة، إن جاز التعبير، فيكون الإنسان صلباً في مواجهة المحنة، لا يتشقق ولا تنكسر روحه، وفي الوقت ذاته لديه المرونة الكافية للتعايش مع المحنة، أو مواجهتها، أو حتى تجاوزها بحلول بديلة، إن أمكن ذلك.
الصلة الحقيقية بالله عز وجل تجعل الإنسان يرى المحنة بمنظور مختلف تماماً عن بقية البشر الذين يقيسون مدى شدتها بطريقة مادية بحتة، فالإنسان المؤمن لا يغفل الجوانب المادية، ولكنه دائماً ما يشعر بمعية الله معه، وترتبط معية الله عز وجل بحسن الظن به سبحانه، وأن ثمة حكمة لما يحدث حتى وإن لم يدركها العقل في تلك اللحظة، يكفي رفع درجته؛ «ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ» (رواه البخاري)، وهو يصبر ويتصبر؛ لأنه يحسن الظن بربه ويؤمن بقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح).
التربية الإيمانية مخططنا الإستراتيجي للحفاظ على الهوية الصامدة بمواجهة المحن
الإنسان المؤمن يوقن أن الله سبحانه لن يكلفه ما هو فوق طاقته، وأن الإنسان يبتلى على قدر دينه، وهو في ذلك كله يستشعر معية الله ولطفه، فلا تتملكه مشاعر الوحدة والإحباط، حتى عندما تساوره مشاعر الإحباط أو يبلغ به الألم مبلغه فهو يفزع للدعاء؛ فيمدده الله تعالى بمدد من عنده، والدعاء سلاح المؤمن، فإذا استشعر الإنسان من نفسه فزعاً أو هلعاً أو عدم قدرة على الثبات يناجي ربه.
التربية الإيمانية
إن صناعة العقل المقاوم للعجز والإنسان صاحب الثبات الانفعالي والصمود النفسي هو أهم ما تقوم به التربية المبكرة للطفل، فالتربية الإيمانية للطفل التي تربطه بالله عز وجل، وتمنح الطفل الثقة المستمدة من ثقته بخالقه الذي لم يتركه هملاً في هذا الكون الواسع.. التربية التي تبث فيه أن اليأس جريمة وكبيرة من الكبائر.. التربية التي تعلمه العقيدة الصحيحة، وأن الموت مرحلة طبيعية لا يفنى فيها الإنسان، وأن الآخرة هي دار الجزاء؛ هي الركيزة الأساسية لصناعة إنسان قادر على الثبات في وجه المحنة؛ ذلك لأن التربية المبكرة تمثل أساسيات بناء الشخصية.
والتربية الإيمانية لها جوانب متعددة، فصناعة شخصية عقلانية تقدر الأمور بقدرها ولا تجنح نحو المبالغة جزء من تلك الشخصية الإيمانية التي تتحرى الصدق والعدل في المواقف والممارسات، وصناعة شخصية متزنة انفعالياً جزء من هذه التربية، وصناعة شخصية تؤمن بعدالة قضيتها وتستطيع الصمود لإقرار هذا الحق مهما كانت التضحية جزء من هذه الشخصية.
على العلماء أن يضعوا قضية الابتلاء وكيفية الثبات على رأس الأولويات
يمكننا القول، إذن: إن التربية الإيمانية مخططنا الإستراتيجي للحفاظ على الهوية الصامدة الثابتة في مواجهة المحن والابتلاءات.
دور العلماء
ليس من المبالغة في شيء القول: إن فقه الأولويات يقتضي من العلماء أن يضعوا قضية المحن والابتلاء وكيفية الثبات في التعامل معها على رأس الأولويات، فالحاجة ماسة لذلك، فبعض الشباب أخرجت المحن أسوأ ما فيهم حتى وصل الأمر ببعضهم إلى عتبة الإلحاد وهم يتساءلون: أين نصر الله الذي وعدنا إياه؟! لماذا لا ينتقم الله من الظالمين الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق؟!
بل إن بعضهم وصل عتبة اليأس وتملكته مشاعر الإحباط والعجز وأصبح من المتخاذلين المثبطين الذين يرون أنه لا فائدة ترجى من أي جهود تبذل، حتى على المستوى الفردي شاعت المبالغة في الشكوى، وسادت حالة من عدم تحمل صعوبات الحياة، وصارت هناك مقاومة لبث روح الرجاء باعتبار ذلك كلاماً إنشائياً استهلاكياً لا يلمس الواقع في شيء، وأصبحت الانفعالات المركبة من الحزن والإحباط واليأس قاتلة لروح الفرد الذي هو وحدة بناء الأمة، وأصبح العقل الجمعي متأثراً بكل هذه المشاعر وما يخالطها من أفكار.
من ثم وجب على العلماء وقادة الرأي والمؤثرين العمل على مواجهة هذه الروح التي تخدم مخططات أعداء أمتنا إن لم تكن جزءاً من مخططهم الإستراتيجي في إدارة الحرب السيكولوجية التي تجعلنا ننهزم من الداخل.