حفلت كثير من آيات القرآن الكريم عن الحديث عن الجهاد بالمال، وقرنته بالجهاد بالنفس، بل تقدم الجهاد بالمال عن الجهاد بالنفس في غالب الآيات القرآنية، ومع كون الجهاد بالنفس أعلى؛ لأنه ليس بمقدور كل أحد أن يجاهد بنفسه، ولكنه مقدور في حق كل أحد أن يجاهد بماله، وليس هناك حد أدنى للجهاد بالمال، بل بقدر الطاقة والوسع، وهي قاعدة قرآنية مقررة في كل نفقة، وذلك في قول الله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ) (الطلاق: 7).
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم متفاوتين في الجهاد بالمال مع جهادهم بالنفس، فقد كان منهم من يخرج كل ماله مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومنهم من ينفق نصف ماله كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من يكثر النفقة كعثمان بن عفان رضي الله عنه، ومنهم من كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفنة من التمر، وكل قد حقق الجهاد بالمال في سبيل الله، وهو نوع من الاستنفار للجهاد في سبيل الله تعالى، كما في قوله تعالى: (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (التوبة: 41)، والنفير كما يكون بالنفس فإنه يكون بالمال أيضاً.
الجهاد بالمال واجب على كل مسلم حسب قدرته واستطاعته
الأمة المجاهدة
وحين تنفر الأمة كلها مجاهدة بمالها للمجاهدين في سبيل الله يتحقق وصف الأمة بأنها «أمة مجاهدة»، و«أمة الجهاد»، وذلك حتى يصير وصف الجهاد عاماً في الأمة، وتخلو من وصفها بترك الجهاد كما جاء في الحديث: «ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا سلط الله عليهم ذلًّا لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم» (أخرجه الطبراني).
ولقد جعل الإسلام حفظ المال من مقاصد الشريعة الخمسة، وجعله في الرتبة الخامسة على ما استقر عند العلماء، ولما كان حفظ المال مقصداً فقد يسول الشيطان لبعض المسلمين ويخوفهم ويخذلهم عن الجهاد بالمال، فتأتي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية آمرة المسلمين الصادقين بالجهاد في سبيل الله بالمال، حتى لا يتوهم أن النفقة للجهاد في سبيل الله تناقض حفظ المال، بل إن المال يحفظ بنفقته في الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لأن الله تعالى يثيب صاحبه عليه في الدنيا قبل الآخرة، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» (رواه مسلم)، هذا في صدقة التطوع، فما بالنا بالنفقة الواجبة جهاداً في سبيل الله تعالى؟!
وقد استنبط الفقهاء من الكتاب والسُّنة أن الجهاد بالمال واجب على كل مسلم كل حسب قدرته واستطاعته، وأنه يسقط عند عدم القدرة، لكنه يبقى واجباً عند القدرة ولو كان بالشيء القليل، ومما جاء في القرآن في الجهاد بالمال قوله تعالى: قال تعالى: (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقوله سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 15).
.. وهو حفظ للنفس من التهلكة والفساد في الدنيا والآخرة
وقد روى أبو داود في سننه بسند عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»، قال الشوكاني في «نيل الأوطار» (8/ 29)، تعليقاً على الحديث: «فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن، وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد بالأنفس والأموال في مواضع، وظاهر الأمر الوجوب».
لماذا قدم الجهاد بالمال عن الجهاد بالنفس؟
ويلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم الجهاد بالمال عن الجهاد بالنفس أيضاً، وذلك لعدة أمور:
الأول: أن الجهاد يحتاج إلى عدة وعتاد يجاهد بها، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، ولا يكون هذا إلا بالمال.
الثاني: أن الجهاد بالمال يقدر عليه كل أحد، أما الجهاد بالنفس فلا يقدر عليه كل أحد.
الثالث: أن مقصود الشارع في حال الاعتداء على المقدسات والحرمات واحتلال الأوطان أن تقوم الأمة كلها بالجهاد في سبيل الله، فمنهم من يقدر على الجهاد بنفسه وماله، ومنهم من يقدر على الجهاد بنفسه ولا يقدر على المال، ومنهم من يقدر على الجهاد بالمال ولا يقدر على الجهاد بالنفس، فيتحقق الجهاد من خلال الجهاد بالنفس والمال معاً، كل حسب قدرته وطاقته.
.. وتعبير عن انتماء المسلم لأمته وتحقيق الأخوة في الله
الرابع: أن حاجة الجهاد إلى المال أكبر من الحاجة إلى النفس، وذلك من إعجاز القرآن الكريم، فإن الجهاد قديماً كان بالنفس أكبر من المال، فالمجاهد يجاهد بنفسه لا يحتاج إلا سيفه ودرعه، أما اليوم فالجهاد بحاجة إلى المال أكثر من حاجته إلى النفس، فقد يجاهد الإنسان من خلال الأسلحة المتطورة واستعمال التكنولوجيا، لكن امتلاك تلك الأسلحة المتطورة التي تدخل فيها التكنولوجيا تحتاج إلى المال أكثر من الجهاد بالنفس.
الخامس: أن الجهاد بالمال يشمل النساء كما يشمل الرجال، فتجاهد النساء بأموالهن ولا يحرمن أجر الجهاد في سبيل الله، بل يجاهد الأطفال الصغار بأموالهم أيضاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الاختيارات» (ص 530): «ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله، فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله؛ وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إن احتيج إليها كما تجب النفقات والزكاة، فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً».
الجهاد بالمال حفظ للنفس
والجهاد بالمال حفظ للنفس من التهلكة والضياع والفساد في الدنيا والآخرة، فالمرء يشتري نفسه من الله بالجهاد في سبيله، كما قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة: 111)، كما جعل القرآن الكريم حبس المال عن الجهاد في سبيل الله وقوعاً في التهلكة، كما قال تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195).
حين ننفق المال للمجاهدين فإنه لله فيتحقق معنى العبودية
كما أن الجهاد بالمال تعبير عن انتماء المسلم لأمة الإسلام، وتحقيق لمبدأ الأخوة في الله، وأنه عضو في المجتمع المسلم، يتفاعل مع قضاياه، بالفكر والوعي والنصح والإرشاد والدعاء والنفقة وبكل ما يملك لتتحقق مفهوم الأمة، وهو من باب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، بما يعود بالنفع على العامة والخاصة، وبالجهاد بالمال يصون المرء نفسه من القتل، أو الوقوع في الأسر، فإن العدو الغاشم يحين يحتل رقعة من بلاد المسلمين، فإنه لا يكتفي بها، بل يسعى لاحتلال بلاد المسلمين كلهم وقتل أكبر قدر ممكن منهم، فحين تُحتل أرض للمسلمين فيقوم بعضهم بالجهاد بالنفس وبعضهم بالجهاد بالمال؛ فتحفظ أوطان المسلمين، وتحفظ ملايين من أرواحهم في مقابل عدد من الشهداء ونفقة في سبيل الله تعالى.
ثم إن الجهاد في سبيل الله من أجلّ الطاعات لله تعالى، فنحن حين ننفق المال للمجاهدين فإنما ننفقه لله تعالى الذي أمرنا بذلك، فيتحقق فينا معنى العبودية والطاعة لله رب العالمين، وهذا معنى الإسلام، كما قال الله في حق إبراهيم عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة: 131)، ومن كان يملك مالاً لم يجاهد في سبيل الله به، فماله وابل عليه في الدنيا، وحسرة عليه في الآخرة، فاشتروا أنفسكم من الله بالجهاد بالمال في سبيل الله.
على أنه لا يظن أن إعانة المجاهدين بالمال نوع من الصدقة والتبرع، بل واجب المشاركة، فالذي يضحي بنفسه وكل ما يملك من المجاهدين؛ واجب على إخوانه أن يشاركوه نوعاً آخر من الجهاد؛ وهو الجهاد بالمال، فإن المجاهد لما كان متفرغاً لذروة سنام الإسلام، وجب على الأمة كفايته فيما لا يقدر عليه، وهو من باب تقاسم الأدوار في جهاد الأمة.