تدلل قصة فتح سمرقند (ثاني أكبر مدن أوزبكستان)، عام 93هـ، على عظمة العدل، وقدرة الإسلام على فتح القلوب قبل الحدود، ليسطر التاريخ نموذجاً من التسامح مع غير المسلمين سيظل شاهداً على عظمة أمة القرآن.
تروي كتب السير والتاريخ أنه في خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز، خامس الخلفاء الراشدين، كان القائد قتيبة بن مسلم الباهلي يفتح المدن والأمصار، وقد فتح الله تعالى على يديه مدينة سمرقند.
افتتحها بدون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية، أو يمهلهم ثلاثاً كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال.
فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام، كتب كهنتها رسالة إلى خليفة المسلمين، مع رسول من أهل سمرقند، وقد روى قائلاً: أخذت أتنقّل من بلد إلى بلد أشهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة، فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها وأُحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، فأخذت على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً، فلما رأيت أعظم بناء في المدينة، دخلت إليه وإذا أناس يدخلون ويخرجون ويركعون ويسجدون، وإذا بحلقات هذا البناء، فقلت لأحدهم أهذه دار الوالي؟
قال: لا، بل هذا هو المسجد.
قال: صليت؟ قلت: وما صليت؟ قال: وما دينك؟
قلت: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين ثم قلت له: أنا رجل غريب أريد السلطان دلّني عليه يرحمك الله؟
قال: أتعني أمير المؤمنين؟ قلت: نعم.
قال: اسلك ذلك الطريق حتى تصل إلى تلك الدار وأشار إلى دار من طين.
فقلت: أتهزأ بي؟
قال: لا، ولكن اسلك هذا الطريق فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده.
فذهبت واقتربت وإذا برجل يأخذ طيناً ويسدّ به ثُلمة في الدار وامرأة تناوله الطين؛ فرجعت إلى الذي دلّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلّني على طيّان! فقال: هو ذاك أمير المؤمنين.
فطرقت الباب وذهبت المرأة وخرج الرجل فسلّم عليَّ ورحّب بي وغسّل يديه، وقال: ما تريد؟
قلت: سيدي، إني صاحب مظلمة لأهل سمرقند، جئت أشكو إليك القائد قتيبة بن مسلم، وقد علمنا عدلكم وطمعنا أن تنصفنا، وأن قتيبة قد أخذنا على غرّة، وقد علمنا أنه من عاداتكم أن تنذر القوم ثلاثة أيام تخيروهم فيها بين الإسلام أو الجزية أو القتال.
فما كان من خليفة المسلمين إلا أن قرأها ثم قلبها وكتب على ظهرها: «من عبد الله عمر بن عبدالعزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا»، ثم ختمها وناولنيها.
فانطلقت أقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق، ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج هذه الجيوش العرمرم وذلك القائد الذي دوّخ شرق الأرض برمتها.
وعدت بفضل الله مسلماً، كلما دخلت بلداً صليت بمسجده وأكرمني أهله، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت، ذهبوا بها إلى عامل عمر بن عبدالعزيز على سمرقند، فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم، ثم اجتمعوا في يوم وسألناه دعوانا فقلنا: اجتاحنا قتيبة، ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا، فقال القاضي لخليفة قتيبة (عبد الله بن مسلم): ما تقول؟
قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه.
قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً، ثم أصدر القاضي أعجب حكم في تاريخ البشرية، قائلاً: حكمت أن تخرج جيوش المسلمين جميعاً من سمرقند خفافاً كما دخلوها خلال ثلاثة أيام، ويتم رد البلد إلى أهله ويعطيهم الفرصة للاستعداد للقتال، ثم ينذرون يخيرون بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، فإن اختار الحرب كان القتال، وذلك تطبيق لشرع الله وسُنة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ما ظنّ أهل سمرقند أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها! فما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، خرج الجيش كله ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال.
فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
_____________________
المصدر: كتاب «فتوح البلدان».