في هذا الوقت الميمون، ومن وراء أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، تطل علينا ذكرى الإسراء والمعراج، هذه الرحلة المعجزة التي تثير عجبنا، وإعجابنا، ومن أحداثها تفوح في نفوسنا المتعبة رائحة السكون والأمان، كلما قرأنا عنها أو سمعنا.
حدثت هذه الرحلة المعجزة في ليلة من ليالي العام العاشر من البعثة الشريفة، ذلكم العام المسمى بعام الحزن لوفاة أبي طالب، ورحيل السيدة خديجة بعده بأيام قلَّ عددها واخْتُلِفَ فيه، ووجد صلى الله عليه وسلم عليهما وجداً شديداً(1).
فَقَدَ صلى الله عليه وسلم المعين والأنيس، فأسرفت قريش في النيل منه الإسراف كله، فخرج إلى الطائف ربما وجد من يعينه على تبليغ دعوته، وكان من سفهاء الطائف ما كان، وبحساباتنا نحن فإن هذه الأحداث، وبهذه الأسباب المتاحة تشي بأن بينه وبين النجاح في أمره من البعد ما بين المشرق والمغرب، ولكن حساباته الشريفة كانت فحسب ناتجة من إحساسه بالرغبة الملحة في نشر دعوة ربه رغم ذلك الألم النفسي الكاثر الذي ألمّ به، وذلك العبء الذي يرزح(2) تحته، وكان لا بد له من الحديث إلى غيره، ولم يكن أمامه سوى ربه، ففزع إلى رحابه يبثه آلامه، ويُفْضي إليه بأحماله، هصر(3) المشركون خاطره ومشاعره، فجبر الجابر عز وجل خاطره جبرًا يليق بعزته وقدرته.
وكان سبحانه وتعالى أعلم بخبره منه، وكي يُسَرِّى عن نفسه الحساسة كافأه برحلة الإسراء والمعراج، لكأنه تعالى يقول له: أيها الحبيب لئن ضاقت بك الأرض فإن ملكوتي في السماء يحتفي بك ويرحب، وأني ناصرك وأنف الشدائد من حولك راغم، فيحدثنا صلى الله عليه وسلم: «أُتِيتُ بالبراق، فركبته، حتى أتيت بيت المقدس، فربطه بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل اخترت الفطرة..»(4).
الحديث طويل، أخبرنا فيه صلى الله عليه وسلم عن لقائه بالأنبياء، وعن الكثير من صور الثواب والعقاب التي رآها، وعن كيفية فرض الصلاة مباشرة ومن غير وسيط، وأنكر عليه المشركون قدرته على الرحلة والعودة في نفس الليلة، وتناسوا أن الفاعل هو الله تعالى؛ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1).
ولئن كان الفعل يتناسب مع قدرة الفاعل، فإن الفاعل هو الله، وراحوا يسألونه دليل صدقه، فطلبوا منه وصف أشياء لم يتثبت منها، ويصف صلى الله عليه وسلم عُسْرَ الأمر وكربته فيقول: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط..»(5).
فماذا حدث يا رسول الله؟
رفع الله عز وجل له بيت المقدس إلى مكة، فراح يصف كل شيء يسألونه عنه بدقة، وكان بينهم من سافر إلى بيت المقدس، وخَبَرَ المسجد جيداً، وقالوا: أما النعت فوالله لقد أصاب!
وكانت وجهة الحدث الصحيحة أن تَـرْشُد قريش للحق، ولكنها شردت عن الصواب.
وبعد، فإن رحلة الإسراء والمعراج ليست مبالغة مؤرخين، ولا أوهام مسلمين، ولكنها حقيقة وقعت ووعت أذن التاريخ الإسلامي الأمين لحقها وحقيقتها، فتلبث يملأ سمعه منها، ثم سارع إلى تسجيلها كمعجزة شريفة أرحب من الخاطر والفكرة، وأوسع من المعنى والكلمة، ومن وراء أكثر من أربعة عشر قرنًا من عمر الزمان:
تطل علينا كل عام ذكرى الإسراء والمعراج قائلة: إنه قد أُسْرِى بالنبي صلى الله عليه وسلم -يقيناً- روحاً وجسداً قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، وكلمة العبد تعنى الجسد والروح، ولئن كان الإسراء بالروح فحسب لما كانت هناك حاجة للبراق، وهو الدابة التي ركبها صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن كلمة البراق مشتقة من البرق، ولئن كانت القوة تتناسب تناسباً عكسياً مع الزمن (كما أثبتت الحقائق العلمية)؛ أي أنه كلما ازدادت القوة قلَّ الزمن، فإن القوة هناك كانت قوة الله المطلقة؛ لذا استغرقت الرحلة أقل حيز من الزمن، وإذا أهبط الله عز وجل عبدين من السماء هما آدم، وحواء، فما الغرابة في أن يرفع عبدين إليها هما عيسى، ومحمد عليهما الصلاة والسلام؟!
تطل علينا الذكرى مدللة على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إماماً بالأنبياء لها دلالتان:
الأولى: أن دين الله واحد، قال صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوةٌ لعَلَّاتٍ(6)؛ دينهم واحد، وأمهاتهم شتَّى..»(7).
والثانية: أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة، وأنه لا بد من قيادة الإسلام للأمم ليفلح سكانها في أمرهم، لأنه دين الفطرة كما أخبر جبريل عندما اختار الحبيب صلى الله عليه وسلم اللبن دون الخمر.
تطل علينا الذكرى صائحة في المتثاقل عن الصلاة: صلِّ قبل ألَّا تستطيع أن تصلى، أما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه رأى «أناساً تُـرْضَخ رؤوسهم بالحجارة»، فسأل جبريل عنهم فأخبره أنهم الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة؟
يا هذا، فُرِضَت الصلاة في السماء دليلاً على رفعتها، وجلال فضلها، وعِظَم قدرها، وأننا أثناء الصلاة ندع ونودع شهوات الدنيا لأن أرواحنا تعرج إلى هناك، فهي معراجك الخاص إلى الله عز وجل، وإن أقمتها بحقها، وعلى وقتها يرفع عز وجل قدرك.
تطل لائمة لكل مغتاب أن تُب عن أكل لحوم الناس قبل ألا تستطيع أن تتوب، أما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه رأى أناساً لهم أظفار من نحاس يخمشون(8) بها وجوههم وصدورهم، ولما سأل جبريل عنهم أخبره أنهم الذين يأكلون لحوم الناس، ويخوضون في أعراضهم.
تطل موبخة من لا يخرج زكاة ماله أن أَدِ حق الله في مال الله قبل أن تملأ بطنك بالضريع(9) ولا تجد ما تقات به غيره، أما رأى صلى الله عليه وسلم أناساً يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع، وعندما استفسر من جبريل عن هويَّاتهم، أخبره أنهم الذين لا يؤدون زكاة أموالهم؟
تطل علينا صافعة كل زانٍ ألا تتوب؟ أما أخبرك حبيبك صلى الله عليه وسلم أنك إن لم تتب سوف تأكل اللحم النتن الخبيث، بينما اللحم الطيب الشهي بين يديك، لأنك تترك الحليلة الطيبة وتلهث خلف الخليلة النتنة، ألا تتقزز؟ أما آن لك أن تعف النتن؟!
تطل علينا الذكرى مرشدة إلى أمانة تبليغ العلم وإن كره الناس؛ أما أرشدك إلى ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة الإسراء؟ وأنه صرَّح برحلة الإسراء والمعراج رغماً عن غرابة حدثها، ورغماً عن كراهة قريش وعلمه بتكذيبها؟
تطل علينا الذكرى مترضية عن أبي بكر، وتشدّ آذاننا بقسوة، وتهمس فيها بلين: الساعات العسيرة تفرز الرجال، أما صرح سلوك أبى بكر رضي الله عنه صبيحة ليلة الإسراء بهذا المعنى؟ عندما أطلقها مدوية، وباقية على هام الزمان: إن كان قال فقد صدق.
تطل علينا ناخسة التنابلة الكسالى؛ افعلوا شيئاً لدين الله، ليس الجهاد أو التضحية بالبندقية فحسب، إنما تتعدد الوسائل، والطامح إلى التضحية لا يعدم الوسيلة، أما استشعرنا بركة الجهاد والتضحية لما أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه رأى أناساً يزرعون يومًا ويحصدون يومًا، ولما استفسر من جبريل عن ذوي هذه الحال المباركة، قال: «هؤلاء هم المنفقون في سبيل الله، يخلف الله عليهم ما أنفقوا».
في تلكم الليلة الميمونة رأى النبي صلى الله عليه سلم الكثير من الصور، نكتفي بما سقناه لننصت إلى ذكرى الإسراء والمعراج التي تطل علينا متسائلة: لماذا لم تتم الرحلة من المسجد الحرام إلى السماء مباشرة؟ وما المغزى من الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم أولاً إلى بيت المقدس؟
لبيان أهمية بيت المقدس لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلئن كانت مكة رمزاً للإسلام، فإن بيت المقدس رمزاً لحال المسلين ضعفاً وقوة.
قويت الأمة أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحَرَّرت بيت المقدس، وتبدلت أحوال الأمة من قوة إلى ضعف فاحْتُلّ بيت المقدس، وقيض الله للأمة قائداً ربانيًا هو صلاح الدين الأيوبي فجمع شملها وحرره، وضعفت الأمة بعد قوة فعاد بيت المقدس إلى أسر الاحتلال.
وهكذا تطل علينا الذكرى هذي المرة صارخة: افعلوا شيئاً من أجل «الأقصى» الذي يقبع جريحاً خزيان، ينزف دماءه وكرامته من دماء وكرامة المسلمين، يتساءل: كيف هان دمي، وهانت كرامتي عليكم؟ لا تحمل من أجله سلاحًا، ولكن صلِّ من أجله، أطلق من أجله أدعيتك، تبرع أسبوعيًا.
الله عز وجل لا يتخلى عن المؤمنين به الدعاة إليه، أما ترى كيف رفع بيت المقدس للنبي صلى الله عليه وسلم في حال كربته؟ لننصت إلى صوت الذكرى ما بين صراخ وصياح، همس وهتاف، نخس وصفع، لوم وتوبيخ، بيان وإرشاد، لننصت لصوتها ولسوف نسترشد منها الكثير.
_______________________
(1) حزن عليهما جزنًا شديدًا.
(2) يعاني ويئن.
(3) كسر ودهس.
(4) حديث صحيح، أخرجه مسلم (1/ 145).
(5) حديث صحيح، أخرجه مسلم (1/ 156)
(6) أنهم أخوة لأبٍ واحد والمقصود به شرع الله، من أمهات مختلفة والمقصود بهن فروع الشرائع؛ أي أن شرائع الأنبياء متفقة من حيث الأصل، وإن اختلفت من الفروع حسب الأزمان، وحسب العموم والخصوص.
(7) أخرجه أبو داود (4324)، وأحمد (9630) باختلاف يسير، وقال أحمد شكر في عمدة التفسير (1/ 601): أسانيده صِحَاح.
(8) يخدش بشدة.
(9) نبات أخضر نتن له شوك.