سُنة التدافع.، المفهوم والضرورة
قام الكون على سنن جارية، هي السنن الإلهية أو سُنة الله في أرضه، وضعها جل وعلا في الأرض كي يحفظ بها حالة التوازن لحركة الإنسان على الأرض؛ (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الفتح: 23)، فالسُّنة كما يذكر الراغب الأصفهاني حكمة الله في خلقه وطريقة طاعة خلقه له، وهي أيضًا الطريقة المثلى والمثال المتبع والمنهج في الخلق الذي يسبب حالة الصلاح للإنسان ولكل المخلوقات.
من السنن التي تحفظ التوحيد وصالحية الأرض للحياة سنة «التدافع»، التي تسطرها الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
لغة: التدافع من الدفع: الإزالة بالقوة، ودفع فلان إلى فلان شيئًا ودفع عنه الشر على المثل، ومنه دفع الله عنك المكروه دفعًا، ودافع الله عنك السوء دفاعًا(1)، وفي القرآن: الدفع إذا عُدِّيَ بـ«إلى» اقتضى معنى الإنالة نحو قوله تعالى: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء: 6)، وإذا عُدِّيَ بـ«عن» اقتضى معنى الحماية، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج: 38)، وقال: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) (البقرة: 251)، وقوله: (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) (المعارج: 2)؛ أي: حام(2).
إن الاستخدام القرآني –كما في آيتي (البقرة 251، والحج 40)– يضع معنى «دفع» سواء كان فعلًا أو اسمًا في سياق متميز من الردع الهادف (الحماية من الشر بدفعه)، وكما هو الشأن في الطبيعة عند وقوع الزلازل بسبب النشاط الجوفي للأرض الذي تتدافع على إثره الحمم ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فإن النزاع بين الإرادات الإنسانية ينجم عن اختلال واهتزاز في النظام الاجتماعي تتولد عنه حالة تدافع لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي(3).
أما في سياق مفهوم «التدافع»، فإن القوة ترتبط بميدان للممارسة والنشاط ولا تكون موضوعًا للامتلاك، وهذا يستدعي التحقق من الغايات التي تمارس القوة من أجلها، كما يستدعي تعزيز المبادرة والردع الهادفين، إن مفهوم «التدافع» في النموذج الإسلامي يرتبط بمقاومة/ دفع الفساد والشرور التي تعتري الكون والحالة الإنسانية على وجه الخصوص من أجل صد وردع هذه الشرور/ المفاسد عن الكون والإنسان وليتم التمهيد للفعل الصالح والنافع الذي يبقي في الأرض يفيد الإنسان كل الإنسان: (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد: 17).
قال ابن كثير حول آية (الحج: 40): لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشف شر أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف(4).
وقال القرطبي: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض؛ أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون، ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله: ولولا دفع الله الناس الآية.. أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة(5).
إن التدافع والدفع لأذى أهل الشر في الأرض واجب على المؤمنين حتى لا يمتد أذاهم فيخرب النفوس المؤمنة ويخرب توحيد الله على الأرض باستقواء أهل الشر وهيمنتهم وتمدد ظلال شرهم على العالم، إذن فالتدافع سُنَّة لمنع الفساد في الأرض أو مواجهته حتى لا يظن الناس أنه الحق، وأنه الوحيد على الأرض؛ أي نموذج الاتباع الذي لا يجد له نموذج منافس أو مغاير لما يدعو له فيظن الناس بواحديته على الأرض أنه الشاكلة الوحيدة الصالحة للاقتداء.
النظام الرأسمالي.. وتأسيس الكيان الصهيوني
استطاعت الأيديولوجية الغربية أن تؤسس في نهاية القرن التاسع عشر نظامًا اقتصاديًا جديدًا هو النظام الرأسمالي، وذلك في غيبة أو ضعف من الحضور الإسلامي ونظمه في المجتمعات الإسلامية ذاتها التي تأثرت بالنظم الغربية في الاقتصاد والاجتماع، ونظرًا لتمتع المنطقة العربية الإسلامية بخصوبة كبيرة في الثروات الطبيعية والجغرافية السياسية التي تتمتع بها هذه المنطقة فكان لا بد مع زوال الاستعمار العسكري الغربي عن العالم العربي أن يترك خليفة له تحمي المصالح الغربية في هذه المنطقة الأخصب في العالم والأكثر تأثيرًا في الحركة الجغرافية بين الشرق والغرب، فكان التفكير بإيجاد دولة الاحتلال الصهيوني من خلال أيديولوجية جديدة هي الصهيونية العالمية والتي هي بنت الاستعمار الغربي والاستغلال الأمريكي للإنسان الملون، ومن ثم حدث اتفاق في المزاج العام بين أوروبا وأمريكا في قيام هذا الكيان الصهيوني في هذه البقعة المباركة أرض الشام وتحديدًا أرض فلسطين المباركة.
غزة.. ومدافعة النظام الرأسمالي
كانت عملية «طوفان الأقصى» أكبر دفع للنظام الرأسمالي العالمي في العصر الحديث، فبينما استكان العالم لظلم هذا النظام وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية وأصبح الكيان الصهيوني حاميًا لمصالح أمريكا في أخصب الأماكن ثروة وموقعًا وهوية وتاريخاً، وبعد أن ظن أنه قادر على القيادة الكاملة لكل العالم بمنطق القوة العمياء، ظهرت فجأة غزة كقوة مدافعة عن كل العالم تغزو هذا الحامي والحارس للنظام الرأسمالي في العالم العربي الإسلامي وتهدد أحلامه بالهيمنة على المقدسات الإسلامية التي يكمن في رمزيتها النموذج الإسلامي المناهض لكل استغلال للإنسان وكل ظلم، الذي أراد أرباب النظام الرأسمالي في العالم طمسه من الوجود وتغييره واستبداله بتشويه متعمد في مشروع التقسيم الزماني والمكاني للمقدسات في القدس المحتلة ومن ثم تغيير هوية المكان والجغرافيا، ولكن فجأة سقطت أحلامهم، وفضحت طموحاتهم وشعاراتهم وإنسانيتهم التي كانوا يزعمون.
نعم، وحقيقة إن غزة تدافع عن النموذج الإسلامي الإنساني ضد النموذج الرأسمالي المتوحش وضد مفاهيمه في الصراع الأبدي، والبقاء للأقوى، والاستغلال، والاستخراب للأمم والشعوب والتمييز العنصري، وأكذوبة الرجل الأبيض المتحضر، والمؤسسات الأممية الموجهة أمريكيًا، واستعادة القيم والأخلاق للإنسان التي فقدها مع انحرافات النموذج الرأسمالي واضطراباته النفسية والشاذة، مدافعة غزة تعيد المعنى وكل المعنى للنظام القيمي الإنساني المهدور أمريكيًا وصهيونيًا، فهي تضحي من أجل الجميع، ومن أجل أن يفيق الإنسان إلى فطرته وكرامته الإنسانية، لقد أيقظت غزة الإنسان كما رأيناه في أوروبا بل وفي أمريكا ذاتها من كل الأجناس والأعراق والأديان، انتفض ليس فقط لوقف العدوان ونصرة لغزة، ولكن كي يقول للنظام الرأسمالي بقياد الولايات المتحدة وحلفائه في أوروبا كفى إهدارًا لقيمة الإنسان وروحه، إن غزة ترسم ملامح ميلاد مجتمع جديد، لكل الإنسان بما يصبو إليه الإنسان وبما يستحق لكونه مخلوق الله تعالى.
________________________
(1) ابن منظور: لسان العرب، مج4، ص369.
(2) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص316.
(3) منى أبو الفضل: النظرية الاجتماعية المعاصرة: نحو طرح توحيدي في أصول التنظير ودواعي البديل، ص97.
(4) ابن كثير: تفسير القران العظيم (5/ 252).
(5) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (12/46).