يطيب لنا الحديث في كل عام في مثل هذه الأيام عن فضل شهر رمضان، وعن استقباله، وعن التوبة الصادقة قبله، وعن الاستعداد التام له، لكننا هذا العام لا بد أن نتحدث عن علاقة رمضان بغزة، بأرض الجهاد؛ لأن قضية غزة والجهاد في أرض فلسطين هي قضية الأمَّة التي يجب ألا تُنْسَى وألا تغيب عن الأذهان لحظة واحدة، فنسيانها خيانة، وتجاهلها خيانة عظمى، فيا ترى ما علاقة غزة بشهر رمضان؟
علاقة رمضان بالجهاد
لرمضان والصيام علاقة وطيدة بالقتال والجهاد في سبيل الله تعالى، علاقة يلاحظها كل ذي عينين، فالقضيتان ذكرتا في سورة «البقرة»، وبنفس الأسلوب في فرض كل منهما، ففي الصيام قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وفي القتال قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) (البقرة: 216)، وكلاهما أيضًا فرض في السنة الثانية من الهجرة، ولأن في كل منهما نوع من المشقة جاء التكليف بخطاب كُتَبَ، وجاء مع التكليف محفزات للعمل بالتكليف، ففي الصيام قال تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) لبيان أن فيه الخير لكم كما كان لمن قبلكم، وقال سبحانه: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ثم قال: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) ليهون الصيام على المؤمنين، ثم قال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وفي القتال قال سبحانه: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وهذا من السياسة الشرعية التي تهون على المرء فعل التكليف الصعب وتجعله بحب ورضًا، وذلك من بيان العاقبة الحسنة على فعل التكليف، فجعل الصوم وسيلة للوصول للتقوى، وجعل القتال وسيلة للوصول للشهادة في سبيله.
فكما أن الصوم جهاد للنفس، وحبس لها عن المباحات، وترويض لها بترك الملذات والشهوات، فمع الصيام أيضًا فرض الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله تعالى، وكان ذلك في العام الثاني من الهجرة، ففي نفس الشهر الذي فرض فيه الصوم من العام الثاني للهجرة، كانت غزوة «بدر الكبرى»، وكان أول نصر عظيم للمسلمين على المشركين، بل العجب أن أول سرية خاضها المسلمون وهي سرية «سيف البحر» بقيادة حمزة بن عبد المطلب كانت في رمضان بعد 7 أشهر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اشتهر شهر رمضان بأنه شهر الجهاد، فهو شهر جهاد النفس، وشهر جهاد الأعداء.
رمضان شهر الانتصارات
اشتهر رمضان بكونه شهر الانتصارات على الأعداء، وذلك لكون أول غزوة عظيمة كان بها أعظم انتصار على المشركين وهي غزوة «بدر الكبرى» كانت في رمضان، وكذا دارت في رمضان غزوات ومعارك فاصلة في تاريخ المسلمين، ففي رمضان من السنة الثامنة من الهجرة كانت غزوة «فتح مكة»، ذلك الفتح المبين الذي أظهر سيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، وفتح الباب للانطلاق إلى خارج الجزيرة العربية، أي بداية عالمية السيادة للمسلمين، وكانت معركة «القادسية» في العام الخامس عشر من الهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص في رمضان، التي كانت فتحًا عظيمًا للمسلمين على الفرس، التي أخضعت بلاد فارس لسلطان المسلمين، وأدخلت جل الفارسيين في الإسلام.
وكذلك كان فتح الأندلس في رمضان، وكانت معركة «حطين» في رمضان، التي حرر الله بها بيت المقدس على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 584هـ، وأيضًا معركة «عين جالوت» بقيادة القائد المظفر قطز عام 685هـ، التي أذل الله بها التتار، وأعاد بها الانتصار والهيبة للمسلمين، وكانت سببًا في عودة الخلافة والمجد للمسلمين على يد العثمانيين كانت في رمضان، وغيرها من المعارك التي انتصر فيها المسلمون، مما جعل علاقة وثيقة بين شهر رمضان وانتصارات المسلمين، وربما ذلك لأن النصر قرين الدعاء لله تعالى، لاستجلاب النصر من الله تعالى، وأن الدعاء أيضًا قرين الصيام ورمضان، فمن أسباب قبول الدعاء أن يكون في الصيام، فمعارك رمضان محفوفة بدعاء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وهم صيام لله تعالى، مما يجلب ويقرب النصر.
غزة.. وشهر الانتصارات
غزة في معركة «طوفان الأقصى» ذكرتنا بانتصار قطز في «عين جالوت»، فلقد كانت مصر آخر معاقل المسلمين وبهزيمتها يكون الشر المستطير على المسلمين عامة، في وقت ظن فيه التتار أنه ليس هناك من قوة على ظهر الأرض تقف أمامهم، وأنهم بابتلاع مصر يكونون قد قَضَوْا على آخر قلاع المسلمين، لذلك نصر الله تعالى أهل مصر على أعتى قوة في زمانها، أو ذاك الجيش المغولي الذي لا يقهر، ليعيد الله بذلك النصر هيبة الإسلام والمسلمين.
وغزة كانت مثل ذلك، ففي حين ظن اليهود أنهم قد سيطروا على العالم الإسلامي بالرعب منهم تارة، وبالمال تارة، وبالسيطرة على الحكام تارة، وبالتطبيع المشؤوم تارة، وما كانوا يرون أي قوة تقدر على حربهم، وكانوا يخططون لاقتلاع أهل غزة من أرضهم لتمام السيطرة على أرض فلسطين، ولهدم المسجد الأقصى، وفجأة يقيض الله تعالى رجال غزة للقيام بـ«طوفان الأقصى» لتكون أكبر هزيمة لليهود في العصر الحديث، بما أذلهم، وقوّض أحلامهم، ودمر معنوياتهم، فخمسة أشهر كاملة وغزة تذيقهم -بفضل الله تعالى وحده- أشد ألوان العذاب وتتمكن في إدارة المعركة باقتدار، فكيف لو حل رمضان والمعركة قائمة؟!
«طوفان الأقصى» في رمضان
إن اليهود ومن خلفهم يخشون استمرار المعركة في شهر رمضان، وما ذلك إلا لعلمهم بسنن الله تعالى في نصر المؤمنين في هذا الشهر الكريم، ولذا يحاولون الوصول لوقف للقتال قبل رمضان، ويكأن الله تعالى يريد شيئًا آخر، فتتعثر المفاوضات لتظل المعركة مستمرة في شهر رمضان، وهذا الشهر تشهده الملائكة وتتنزل فيه السكينة والرحمة على المؤمنين، وتغل فيه الشياطين، وهنا يكون النصر أعظم لعباد الله تعالى المؤمنين، وفي شهر رمضان تمتلئ المساجد والساحات بالراكعين الساجدين الذين لا همَّ لهم سوى الدعاء لإخوانهم في غزة بالنصر المبين، وحاشا لله تعالى أن يرد كل عباده هؤلاء صفرًا، فأهل غزة منتصرون من قبل رمضان فكيف بهم إذا حل عليهم شهر الانتصارات وهم مرابطون في ثغورهم؟!
دور الأمة في المعركة
والأمة هنا هي الشعوب الإسلامية العريضة التي تتمنى النصر لإخوانها في غزة، ها هو قد جاءكم شهر رمضان، فلا تدَعوا فرصة ولا لحظة إلا وتتضرعوا لله تعالى أن ينصر إخوانكم المرابطين في غزة، دعاء القنوت في كل الصلوات، دعاء السحر، الدعاء ساعة الفطر، والأدعية وأنتم صائمون، كل هذه أدعية مع الإخلاص والصدق لا ترد بإذن الله تعالى، والدعاء سلاح بتار وسهم لا يخطئ أبداً، فاستخدموا كل أسلحتكم نصرة لإخوانكم.
اللهم منزل الكتاب مجري السحاب سريع الحساب هازم الأحزاب، اللهم اهزم أحزاب الكفر وانصرنا عليهم، اللهم انصر عبادك المجاهدين على أرض فلسطين نصرًا عزيزا مؤزرًا، اللهم وأنج المستضعفين على أرض فلسطين برحمتك يا أرحم الراحمين.