معنى الفتنة
للفتنة عدة معانٍ، منها ما جاء في معجم «لسان العرب»: «جِمَاعُ مَعْنَى الْفِتْنَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَأَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ فَتَنْتُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ إِذَا أَذَبْتَهُمَا بِالنَّارِ لِتُمَيِّزَ الرَّدِيءَ مِنَ الْجَيِّدِ، وَفِي الصِّحَاحِ: إِذَا أَدْخَلْتَهُ النَّارَ لِتَنْظُرَ مَا جَوْدَتُه».
ومعنى الفتنة المقصود في هذا المقام هو امتحان المسلم بمختلف المحن والمنح التي تمحّص إيمانه، فتبيّن أصله من زيفه وحقيقته من غشّه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ونبلُوَ أخبارَكم) (محمد: 31).
وأما التمحيص فهو من المَحْص: «وَالْمَحْصُ فِي اللُّغَةِ: التَّخْلِيصُ وَالتَّنْقِيَةُ من كل عيب، وَمَحَصْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارِ إِذَا خَلَّصْتَهُ مِمَّا يَشُوبُهُ، وَتَمْحِيصُ الذُّنُوبِ: تَطْهِيرُهَا»، فتمحيص الإيمان يعني من جهة تخليص حقيقه وإظهار صدقه، ويعني من جهة أخرى تخليصه مما يعلق به من شوائب تكدّره، كذنوب تُكَفَّر عن صاحبها، أو شك كان في نفسه فيزول ويحل محله يقين راسخ، وهكذا. ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) (آل عمران: 154)» انتهى من «لسان العرب».
والحاصل من هذا العرض أن غاية الخلق في هذه الدار إجمالًا هي الاختبار في الدين وتمحيص الإيمان، كما في قوله تعالى في سورة «الملك»: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)، فيُفْرَق بين عمل المؤمن والكافر من جهة، ثم تتباين درجات صدق المؤمنين في إيمانهم بحسب أعمالهم القلبية والجوارحية في مختلف ما يتعرضون له.
هذا التصور المتكامل يفيد في إدراك المسلم واستحضاره لقاعدة «عبادة الوقت»، ففي كل أطوار الحياة وتقلبات الأحوال وجه من وجوه التعبد في حينه بيّنه الشرع، كالشكر والجدّ وقت العافية، والصبر والاحتساب والتخفيف وقت المرض.، ويفيد من جهة أخرى في تلافي نفسية الانتظار أو تعليق الحياة إلى حين انتهاء وضع طارئ وعودة الأمور لنصابها الطبيعي، بما يضعف صبر العبد ويجعله مُتململًا قَلوقًا منشغلًا عن كيف أتعبد في هذا الحين؟ بمتى ينتهي هذا الحين؟!
وبسبب الخلل في التصور العَقَديّ المتكامل وما يتفرّع عنه من سوء تصرّف يخالف مقتضى العبودية من العبد، تنقلب الفتن التي تَعرُض للمؤمن لتمتحن إيمانه، تنقلب وبالًا عليه بما تفتنه في دينه نفسه! كيف ذلك؟
أطراف الفتنة
الذي يرتسم في أذهان الغالبية عند تصور الفتنة بمعنى الامتحان، أنها تقتصر على الفاتن والمفتون، فالمفتون هو المُمتَحَن، والفاتن هو من أو ما تعلق به سبب الامتحان من مرض أو ألم أو عدوّ، أو أي شكل من أشكال النقص المذكورة في الآية آنفًا.
والحق أن ثمة طرفًا ثالثًا تحيق به فتنة وإن من نوع آخر، وهو الشاهد الذي يشهد فتنة غيره أو خوضه لامتحانه عن بُعد، فيتوجع ويتألم ويتعاطف مع المُمْتحن وإن لم يخض عين امتحانه، فتنة الشاهد لا تقل عن فتنة المفتون المباشر، بل وامتحانه أشد لأنه أخفى، فالشاهد يغفل عن امتحانه هو لانشغاله بشهادة حال غيره.
وهذا النوع من الفتنة في الدين مذكور ضمنًا وصراحة، منها ما جاء في تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (يونس: 85)، فالشائع في معناها: يا رب لا تسلط علينا الكفار فيظنوا أنهم ظاهرون علينا لكونهم خيرًا منا، لكنَّ لها تفسيرًا آخر مفاده: يا رب لا تسلط علينا من الذل والهوان ما يُزَيَّن في أعيننا الكفر وما في معناه، لغلبة أو ظهور الكفار علينا.
فتنة تزيين الكفر هذه هي الفتنة الخفيّة المحدقة بذلك الشاهد وهو عنها في غفلة، يحسب أنه آمن لمجرد أنه لا يخوض الفتنة الظاهرة كغيره.
فكيف يُزَيّن الكفر في عين المؤمن؟
فتنة الكفر على الإيمان
الكفر لغة: التَّغطيةُ للشيء والسَّترُ له، وبينه وبين المعنى الاصطلاحي رابط، من حيث إن الكافر على عينه غشاوة تمنعه من إبصار الحق، وكذلك من حيث إنه بكفره يغطي على حق الله تعالى عليه، فحق الله تعالى على كل العباد أن يؤمنوا به ويعظّموه ويوقّروه، على وجه العبودية، لا التفضل ولا الندية، وأن يُجِلُّوا حُرمة جنابه تعالى فلا يتجرؤوا على انتهاكها بأي صورة من صور سوء الأدب والتجاوز.
ومع ذلك، تجد المؤمن قد يقع في مختلف صور الكفر التي تغطي على إيمانه، بل وتعاكس مقتضاه، منها في هذا المقام من يشهد ابتلاء يخوضه غيره، فيتوجع ويتأسف ويتحسر لذلك المبتلى بمنهج وكيفية لعلها تقدح في إيمانه هو -أي الشاهد- من حيث يظن أنه ينصر أخاه ويتعاطف معه! فيصيح الشاهد: أين أنت يا رب مما يجري في حق المؤمنين من تقتيل وتشريد وانتهاك؟ أين حفظك يا رب للمؤمنين؟ أين نُصرتك للمسلمين؟ كيف ترضى لنا هذا الذل والهوان ونحن أهل الدين والتقوى؟ لماذا تأذن للشر والباطل أن يتسلّط؟ ما ذنب اليتيم والأرملة والثكلى؟ كفى يا رب أخذًا منا!
وهكذا تتفجر براكين أين وكيف ولماذا وما أشبه في وجدان المؤمن ويموج بها صدره وإن لم ينطق بها لسانه، أو ينطقها بنبرة تُخرجها عن حقيقة الاستفهام بسبب الجهل، إلى العتاب والملامة والسخط وما لا يجوز بحال من جهة العبد تجاه مقام الرب تبارك تعالى، وذلك بسبب كِبر كامن في النفس -ولو مثقال ذرة- يجرّئ العبد على استشعار ندّية تخوّله حق مساءلة ربه ومحاسبته!
فيا لها من فتنة! وما أشدّها من القتل!
نفسية العبد ونبرة العبد
المؤمن بالله تعالى أولى من غيره بإدراك أن إسلامه لله تعالى هو حق الله تعالى عليه، وليس منّة منه وتفضلًّا! بل إن المنّة لله تعالى والفضل إذ هداه للحق بغير عناء منه، ووقاه بذلك عذاب الآخرة الخالد: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17).
ثم إذا كانت مختلف المواثيق الإنسانية تنص على حقوق للناس بوصفها مُسلَّمات مَقضيّة (نظريًّا فحسب على الأقل)، ففي التصور الشرعي لا حق لمخلوق ابتداء في شيء، وإنما الله تعالى هو الذي يمنّ على الخلق فيحق لبعضهم على بعض حقوقًا، وبالتالي لا وجه في التصور الشرعي للنزاع على التساوي والتفاضل في الحقوق والواجبات والأخذ والعطاء، فالملك لله أولًا وآخرًا، والقسمة كانت منه أولًا وآخرًا، وليس لمخلوق على الخالق مُسلَّمَات مفروضة!
وفي مناظرة بين القاضي عبد الجبار الهمداني من كبار المعتزلة والإمام السفراييني من أئمة السُّنة، قال له فيها القاضي: أرأيتَ إن منعني اللهُ الهدى، وقضى عليّ بالرَّدَى، هل أحسن إليّ أم أساء؟ فأجاب الإمام: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء(1)!
فمن أين يجد عبد في نفسه من الندّية ما يجرِّئه على مساءلة ربه تبارك وتعالى بنبرة استعلاء أو شعور باستحقاق كشف الحساب، إلا بسبب ما تسرّب من ثقافات أهل الكفر وعقائدهم المنحرفة القائمة على تأليه الإنسان واستحقاقه لإخضاع كل ما عداه لرغباته وتحليلاته ولو كانت الذات الإلهية!
إنما للعبد أن يسأل لا يُسائِل، وبنبرة عبد يستفهم ويستعلم، ونفسية عبد مستعدة للامتثال بعد العلم.
القدرة والمشيئة
ثم على المؤمن أن يميز بين القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية، فالله تعالى قادر أن يرفع أي ابتلاء، بل ألا يتعرض مسلم لابتلاء أصلًا، إلا أن مشيئته تعالى قضت بالامتحان في الدنيا وكتبت على الدنيا الامتحان، ودونك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلو كان أحد أولى بمعافاته من الابتلاءات لكرامته على الله تعالى لكانوا هم، وإنما كانت كرامتهم هي عين ابتلائهم بالابتلاء الأكبر والتكليف الأعظم، وهو بلاغ الحق للعالمين وما في سبيله من مشاق.
وكذلك لو كان أحد أولى بالاعتراض على ابتلاء الله تعالى له رغم كرامته لكانوا هم، وحاشاهم جميعًا! وفي الحديث: سُئِلَ رسولُ اللهِ أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم، فمن ثَخنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه، ومن ضعُف دِينُه ضعُفَ بلاؤه، وإنَّ الرجلَ لَيصيبُه البلاءُ حتى يمشيَ في الناسِ ما عليه خطيئةٌ»(2).
الله قادر وإنما أنت محل الاختبار
وإن الله تعالى قادر أن يقيم الساعة ويقضي بين الحق والباطل ويؤاخذ الظالمين بظلمهم، وإنما جرت مشيئته أن يمتحن بني آدم على هذه الأرض بأعمالهم حتى حين هو تعالى مُقدّره وأجل هو بالغه: (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: 253).
وإذن عليك، أيها المؤمن، أن تعي أنك أنت محل الاختبار من الله تعالى لا العكس! وأن إيمانك أنت هو محل التمحيص، وليست قدرة الله تعالى هي محل التمحيص منك!
______________________________________
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة- مذهب القدرية والمعتزلة في القدر والرد عليهم- مناظرة بين عبد الجبار المعتزلي وأبي إسحاق الإسفراييني في القدر.
(2) مسند أحمد: مسند باقي العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حديث رقم (1494).