تغلغلت التكنولوجيا الرقمية في كافة الأنشطة الإنسانية، بما في ذلك المجال الديني، وتكمن أهمية هذا المجال في قدرته على مخاطبة وتوجيه عشرات الملايين والتأثير في اعتقادهم وسلوكياتهم، وفي ظل قدرة الرقمية على الوصول للملايين، تأتي أهمية ضبط هذا المجال، حتى لا يُنتج التلاقي بين الرقمية والرؤى الدينية أزمات، ويكون من مسببات ومغذيات إنتاج العنف والكراهية والعنصرية.
الرقمية، ليست انتقالاً لاستخدام وسيط جديد في الإفتاء، مثل الصحافة أو الراديو أو التلفزيون، ولكن الفتوى في الزمن الرقمي ذات اتساع كبير، فهي لا تتقيد بجغرافيا، بل قادرة على الوصول والتأثير في أعداد ضخمة، ومن الصعب قمعها أو إلجامها بضوابط وقيود.
وإذا أدركنا أن هناك 5.53 مليارات مستخدم للإنترنت عالمياً، وحولي 5.04 مليارات مستخدم لمواقع التواصل، فإن الفتوى ذات خطورة في تشكيل الصورة الذهنية عالمياً عن الدين، فقد تفتح باعتدالها وقدرتها على مخاطبة الإنسان الآفاق أمام الدين، وإما أن تبني صورة ذهنية سلبية أو معادية للدين، هذا التحدي الذي تواجهه الفتوى في الزمن الرقمي تفرض على المفتي أن يكون مدركاً بعمق لطبيعة الوسيط الرقمي، وطبيعة حركة الدين في هذا الفضاء؛ لأن الجهل بخطورة وتأثير الوسيط الرقمي قد يشوّه صورة الدين، والفتوى الخاطئة قد تغلق قلوب الملايين، ويفرض ذلك على المفتي التريث والتعمق في فتواه، لأن الوسيط الرقمي لا ينسى ما يبث عليه.
الفتوى في الزمن الرقمي تفرض على المفتي أن يكون مدركاً بعمق لطبيعة الوسيط الرقمي
وقد دار نقاش فقهي حول مسألة ضبط الفتوى، وأحقية السلطة في التدخل لضبط هذا المجال، ووصل الأمر للحجر على بعض المفتين مثل «المفتي الماجن»، وشكلت السيولة والفوضى في الإفتاء خطوة على الدين ذاته، مثل فتوى «إرضاع الكبير» التي ظهرت عام 2007م، ورغم الدور العلماني في إخراجها عن مضمونها واستغلالها لتشويه الدين، فإن هناك ضرورة في أن يستند الإفتاء إلى مؤسسة خاصة في القضايا العامة والمتخصصة، وأن يكون إفتاء جماعياً تساهم فيه عدة تخصصات.
مركز الأزهر العالمي للفتوى
من التجارب الإفتائية في الفضاء الرقمي مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، الذي أُنشئ بقرار من شيخ الأزهر د. أحمد الطيب، في نوفمبر 2016م، بهدف إصدار الفتوى الشرعية، ونشر الدين الصحيح، ومقاومة الفكر والفتاوى المتطرفة بأكثر من لغة.
ففي عام 2023م فقط، قام المركز بالرد على أكثر من 1.7 مليون فتوى هاتفية ونصية وميدانية وبحثية وإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، في شتى مناحي الحياة، إلا أن ميزة المركز أنه كان أكثر اشتباكاً مع القضايا الحياتية للإنسان المسلم، ومحاولة تقديم حلول ورؤى شرعية بشأنها، ومن ذلك تأسيس «بنك فتاوى الأزهر الإلكتروني»، في ديسمبر 2019م، وجاء الإنشاء في ظل أزمة «كورونا»، وسعى المركز لإرشاد الناس إبان الوباء والإغلاق، خاصة مع منع الصلاة في المساجد، بما فيها صلاة الجمعة، وأصدر المركز دليلاً حوى 10 آلاف فتوى، غطت كافة التساؤلات.
وأنشأ وحدة «بيان» لمواجهة الفكر الإلحادي وتقديم الدعم النفسي لتلك النفوس القلقة، وزادت مشاركات المركز الإعلامية المسموعة والمرئية والإلكترونية خلال عام 2023م عن 21 ألفاً، كما نشر المركز أكثر من 18 ألف محتوى فقهي ودعوي وتصحيح للمفاهيم على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ومن تلك المشاريع: «حكاية كتاب»، «قدوة»، «قرة عين»، «رسائل»، «فقهيات»، «توعية أسرية»، «بيان»، «جوامع الكلام»، «مفاهيم»، «هذا هدى».
«الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية» يصدر الفتاوى الشرعية ويقاوم الفكر المتطرف بأكثر من لغة
لم يكتف المركز بتلقي الأسئلة والشبهات والرد عليها، ولكن قام بخطوة استباقية في تتبع الفتاوى المتشددة والشبهات، والظواهر والتقارير الإعلامية، وزاد مجموعها على 27 ألفاً، وقام الفريق بأكثر من 150 بثاً حياً للرد على أسئلة المتابعين بصورة مباشرة، كما عقد المركز أكثر من 460 ورشة تدريبية ودورات علمية وتثقيفية لرفع كفاءة فريق العمل، إضافة إلى تقديم أكثر من 37 ألف بحث ومراجعة ومتابعة علمية.
وانتقل المركز من العالم الافتراضي إلى الواقع في وحدة «لم الشمل» التي تعاملت مع 111 ألف حالة نزاع أسري، لتؤثر خدماتها ودورها في مليوني شخص استفادوا من دورها، وقام بلقاءات توعوية أسرية ومجتمعية طافت الجمهورية زادت على 93 ألفاً بين ندوة وورش عمل وفعالية، استفاد منه قرابة 7 ملايين مواطن في الفترة من عام 2018 حتى 2023م.
وبلغ عدد الاستشارات الأسرية التي قدمها المركز أكثر من نصف مليون استشارة خلال عام 2023م، من خلال قنوات التواصل الإلكترونية واللقاءات الميدانية للمقبلين على الزواج أو المتزوجين بالفعل، بهدف الحفاظ علىٰ كيان الأسرة من التفكك.
المؤشر العالمي الفتوى
المؤشر العالمي للفتوى (GFI)، التابع لدار الإفتاء المصرية، تم تأسيسه عام 2017م، من باحثين شرعيين ومتخصصين في فروع العلم المختلفة، كسبيل لاستشراف مستقبل التيارات الإسلامية، وانقسم فريق العمل إلى 3 أقسام، جمعت بين الرصد والتحليل، للوقوف على مواطن الخلل في الفكر المتطرف، والوصول إلى منابعه وكيفية استخراجه لفتاويه.
المؤشر يرصد الفتوى، بشقيها الرسمي وغير الرسمي في 40 دولة، محدداً الخريطة الإفتائية لكل دولة على حدة؛ بقصد الكشف عن تأثير الفتوى في المجتمعات والأحداث الجارية، ورصد التوظيف السياسي للفتوى، والمؤشر يعتمد على ما تصدره 500 مؤسسة إفتاء رسمية عربية وغير عربية، إضافة إلى 1500 موقع إلكتروني يقدم خدمة الفتوى، وكذلك 100 قناة تلفزيونية وفضائية، وصنف الفتوى إلى 30 تصنيفاً، لتحديد مجالاتها وطبيعة اهتمام الأماكن الجغرافية بفتاوى معينة، وبذلك نجح المؤشر في بناء تصور عام عن الفتوى في العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة، فيما يشبه المسح شبه الشامل للفتاوى.
«المؤشر العالمي للفتوى» يقوم برصد الفتاوى بشقيها الرسمي وغير الرسمي في 40 دولة
وفي تقرير للمؤشر، رصد حصاد 4 سنوات من العمل (2018 – 2021م)، رصد الفتوى في 24 دولة، معتمداً على مليونين و600 ألف فتوى، وقد صدر في 3 كتب، يقترب مجموعها من 600 صفحة، وتم إتاحتها لصناع القرار والباحثين المتخصصين.
وفي عام 2023م، أعلن المؤشر العالمي للفتوى عن إصداره تقريره السنوي، في 200 صفحة، راصداً 15 ألف فتوى من 23 دولة، وكشف عن التحديات التي تواجه الفتوى، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي.
ولاحظ المؤشر وجود اهتمام إفتائي بقضايا الذكاء الاصطناعي، فرصد حوالي 3 آلاف فتوى، استحوذ الذكاء الاصطناعي على 13% منها، وأن 85% من الفتوى اتفقت على جواز ومشروعية التعامل مع الذكاء الاصطناعي، في حين ذهبت 15% من الفتوى بتحريم التعامل مع الذكاء الاصطناعي.
ويلاحظ أن الذكاء الاصطناعي يمثل تحدياً للإنسان، ولأهل الأديان بصفة خاصة، ففي عام 2020م وقع بابا الفاتيكان فرنسيس على ميثاق روما لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، هذا التوجه الديني لضبط السلوك في مجال الذكاء الاصطناعي يعد عالمياً؛ وهو ما يعني وجود مساحات مشتركة بين الفتوى في المجال الإسلامي وأهل الأديان الأخرى، يمكن أن تستفيد منه الفتوى لطرح قضايا الانشغال الإنساني على بساط الفهم الإفتائي الإسلامي.