لعل من أعظم ما يُتأمل في النفس أثر العبادة عليها في حالاتها المختلفة، وسلوكها تجاهها حال القوة والضعف واليسر والمشقة، لا سيما مع ما جبلت عليه من طبيعة تتغير أحوالها من آن لآخر.
معنى النفس
عرفت معاجمُ اللغة النفسَ على أنها الروح، قال ابن إسحاق: «النفس في كلام العرب يجري على ضربين؛ أحدهما: قولهم: خرجت نَفْس فلان، أي: روحه، وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا، أي: في روحه، والضرب الآخر: فيه معنى جملة الشيء وحقيقته، تقول: قتل فلان نفسه، وأهلك نفسه: أوقع الهلاك بذاته»(1)، وهناك فرق بينهما باعتبارٍ، قال الجرجاني: «النفس هي الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم الروح الحيوانية، فهو جوهر مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه، وأما في وقت النوم فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه، فثبت أن النوم والموت من جنس واحد، لأن الموت هو الانقطاع الكلي، والنوم هو الانقطاع الناقص»(2)، وقال ابن بري: «النفس: الروح، والنفس ما يكون به التمييز؛ فالأولى هي التي تزول بزوال الحياة، والثانية هي التي تزول بزوال العقل»(3).
وعليه، فقد قررتْ هذه التعريفات مجردةً شيئًا من طبيعة النفس؛ وهو احتواؤها على ما تشتهي به ما يوجب بقاءها من المطالب الأرضية الدنيوية كالطعام والشراب والنسل من جهة، وما ترتقي به عن هذه الطبيعة إلى أخرى ملائكية روحانية من جهة أخرى، وبين تنقلها بين هذا وذاك يكمن الجهد معها في غلبة إحدى الطبيعتين على الأخرى، فمن ارتقت مطالبه إلى الروحانية؛ لزم ما يزكيها؛ فمال إلى مفارقة طبيعته الدنيوية، وقد يصل في ذلك إلى مراتب فاضلة؛ لا يرعى فيها مطالبه الدنيوية إلا بالقدر الذي لا تزهق به نفسه، ومن خست مطالبه فاقتصرت على طبيعته الأرضية؛ لم يحرص إلى على التكثر من الملذات، وقد يصل في ذلك إلى مراتب دنيَّة لا يحرم فيها حرامًا ولا يحل حلالًا حتى يستوي مع البهائم.
النفس في القرآن
يقرر القرآن عدة حقائق عن النفس، فقد خلقها الله عز وجل قوة مدركة مُلهمة قابلة للفجور والتقوى؛ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس)، وأنها المخاطبة بفعل الطاعة واجتناب المعصية؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم: 6)، وذكر من طبيعتها أنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الله؛ (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ) (يوسف: 53)، وأنها تسول للبعض أفعالًا ردية؛ (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (يوسف: 18)، وأنها تلوم صاحبها وتندم على ما فات؛ (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة: 2)، وأن أهل الصلاح تطهر نفوسهم حتى ترضى عن الله ويرضى عنها ويجازيها بحسن العبودية حسن الثواب (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر).
ولذلك فمنتهى رفعة النفس استقامتها على العبودية حتى تفوز في مصارعتها طبيعتها الأرضية فتسمو إلى الروحانية وتجد الطمأنينة حالًا ومآلًا.
مركزية العبودية
وقد كلف الله هذه النفس حين خلقها بغرض واحد حصري، وهو العبادة؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وأمرها تجاهها بسلوكين؛ أحدهما: في ذات العبادة نفسها خارجيًا وهو صحتها ومشروعيتها، والآخر: في النفس الكاسبة لها داخليًا وهو إخلاص القصد فيها لوجه الله عز وجل وخلوصها من الشرك، قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا) (الكهف: 110).
ولذا، فلم يُغفل الشارع الحكيم أمر رعاية النفس الكاسبة للعمل، بل جعلها أصلًا لقبوله، فكانت بذلك تزكية النفس قطب الرحى الذي يدور عليه الصلاح من عدمه، ومقصداً رئيساً لنزول التشريع، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2).
طبيعة النفس وحقيقة الاختبار
ومع طبيعة النفس من أنها تحب وتكره وتستيسر وتستصعب وتأْلَهُ -أي تعبد- جاءت العبادات ميسرة غير عسيرة؛ (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، ولم يكلف الله عز وجل عبادَه بما لا يطيقون (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7)، وهذا لا يمنع أن تكره النفس أمورًا من العبادة من جهة ثقلها لا من جهة صلاحها، لكن ترتيب الشريعة حسن المآل بصلاح الدنيا وثواب الآخرة لمن تيقن في علم الله بالصالح لخلقه؛ مهون لها، كما قال عز من قائل: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (البقرة: 216).
بل قد اختصرت العبودية المرضية بأنها محفوفة بما تكره النفس، وفي المقابل قد اختصر التفريط في جنابها بأنه محفوف بشهوات النفس التي تميل إليها، فصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «حُجِبَتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وحُجِبَتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ»(4)، بل وقورن بين من اتخذ الله إلهه فأحبه وخضع لأمره بمن اتخذ إلهه هواه، فقرر القرآن الكريم اتباع عبيد الهوى أهواءَ نفوسهم في أظهر واضحات الديانة وهي التوحيد ونبذ الشرك، فقال تعالى: (إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم: 23)؛ ولذا كان الإيمان قائمًا على النفس؛ يعلو بها أو يسفُل.
الإيمان وتخفيفه مشقة العبادات
والإيمان في التصور السُّنِّي يزيد وينقص، حسب حالات النفس المختلفة، وإن العبد ليلمس ذلك بفطرته، فيحس من نفسه نشاطًا للطاعة في أوقات أكثر من أخرى، ويحس كذلك بالفتور مثل ذلك، فمن بلغ حالًا في زيادة الإيمان وأقام على مقام يرقيه في منازل العبودية هانت عليه كل مشقة عارضة، وبهذا يفسَّر ثبات المؤمنين حال المحن والبلايا، وتفاديهم للانتكاس والارتكاس الذي يصيب غيرهم، فضلًا عن غير ذلك من مشقات عاديَّة، فلا يعبدون الله على حرف، بل يقودهم حادي المحبة إلى رضوان الله تعالى، متسلحين بعدة الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه.
_________________________
(1) لسان العرب لابن منظور (14/ 320).
(2) التعريفات (1561).
(3) لسان العرب (14/ 321).
(4) أخرجه البخاري (6487)، ومسلم (2823).