إن الله تعالى بعد أن أمر عباده بالإيمان به والإقرار بوحدانيته، شرع لهم فرائض يؤدونها، هذه الفرائض هي أركان الدين، ومنها فريضة الحج التي قال عنها الله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97)، وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةٍ عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ»(1)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل ثواب كل حركة وتصرف في أداء هذه الفريضة من حيث الطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمار وحلق الشعر وغير ذلك من أعمال.
ولكي ينال المسلم هذا الثواب العظيم، لا بد أن يكون حجه مبروراً، ولكي يكون الحج مبروراً لا بد له من ضوابط، منها:
1- أن يكون خالصاً لوجه الله:
يقصد الحاج وجه الله تعالى تقرباً منه لا رياء ولا سمعة، فعن أنس بن مالك قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ لَا تُسَاوِي ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ»(2)، فإذا فقه العبد عن الله تعالى أنه لا يقبل إلا ما خلص وصفا من الأعمال لوجهه دون خلقه، وأن نفسه وعدوه يدعوانه إلى ما يحبط عمله، حذر واستدل بالعلم، فعلم حين تأتيه النزعة أمِن قِبل الرياء أو غيره(3).
2- طهارة المال:
الله تعالى إذا أمر بطاعة يتعبد بها المسلم له، فينبغي للمسلم أن يتقرب إلى الله بما أحلّه الله له، فإذا كان الله شرع لعباده فريضة الحج فعلى الملبي أن يكون مال سفره وزاده وراحلته من حلال، فالله عز وجل طيب لا يقبل إلا الطيب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ قَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (المؤمنون: 51)، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَقَدْ غُذِّىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ»(4).
فإذا خرج العبد بزاد حرام رد الله عليه عمله وعاد خاسراً ماله، يحمل أوزار سعيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا بنفَقَةٍ طَيِّبَةٍ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَلالٌ، وَرَاحِلَتُكَ حَلالٌ، وَحَجُّكُ مَبْرُورٌ غَيْرُ مَأْزُورٍ، وَإِذَا خَرَجَ بِالنَّفَقَةِ الْخَبِيثَةِ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ، فَنَادَى: لَبَّيْكَ، نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ، زَادُكَ حَرَامٌ وَنَفَقَتُكَ حَرَامٌ، وَحَجُّكَ غَيْرُ مَبْرُورٍ»(5)، فطهارة مال المسلم فيما يتقرب به إلى الله تعالى أرجى لقبول طاعته وأسلم لأداء ما افترضه ربه عليه.
3- اجتباب الأخلاق المرذولة.
جعل الله تعالى الفرائض وسيلة لتهذيب النفس وتربيتها، والحج من بين الفرائض التي جعلها وسيلة لتجنب مساوئ الأخلاق، حيث قال جل شأنه: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197)، فالرفث والفسوق والجدال مجموع سوء الأخلاق، فالمقصود ليست هذه الأخلاق لذاتها، بل كل خلق سيئ وإن كانت هذه الأخلاق المذكورة أسوأها، فعن ابن عُمَر، قال: الرفث: الجماع، والفسوق: ما أصيب من معاصي الله من صيد أو غيره، والجدال: السباب، والمنازعة(6)، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن شرط قبول الحج مرهون بترك وتجنب مساوئ الأخلاق، فقال: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(7).
فإذا كانت المغفرة يتم نيلها بترك سوء الخلق، فعلى كل متجه إلى بيت الله تعالى أن يروض نفسه على ترك فواحش الكلام والأفعال حتى ينال قبول عمله.
4- تقديم النفع للآخرين:
الحاج الذي أراد الاستجابة لأمر الله في أداء فريضة الحج ينبغي له أن يكون كثير النفع لغيره يمد يد العون لمن احتاج إليه، يرى غيره منه حسن أفعاله وجميل خصاله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ»، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ؟ قَالَ: «إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ»(8).
وعن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَي الْحَجِّ أَفْضَلُ قَالَ: «الْعَجُّ وَالثَّجُّ»(9)؛ والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دماء الهدي.
فمن هذه الأحاديث يتبين أن بر الحج يشمل السمو الأخلاقي، فتعامل الحاج مع غيره يقوم على سلامة الفؤاد من الأحقاد، وطيب الكلام وكف اللسان عن السباب وإمداد يد العون لكل من احتاج إليه؛ «فالحجُّ المبرورُ ما اجْتَمَعَ فيهِ فعلُ أعمالِ البرِّ معَ اجتنابِ أعمالِ الإثمِ»(10).
5- دوام الطاعة:
ما الطواف بالبيت الحرام إلا تذكير بعظمة الخالق وتذكير بالعهد الذي قطعه المخلوق على نفسه لمواصلة العبادة للعظيم الذي خلق الخلق فأحصاهم عدداً؛ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172)، فمن عظم الله تعالى في فؤاده ووفى بالعهد الذي قطعه على نفسه زهد في الدنيا وانشغل بآخرته، لأن من طاف باليت الحرام فكأنما عاهد الله على مواصلة الاستجابة للحق جل شأنه.
فعن محمد بن عباد أنه سمع ابن عباس يقول: الركن يعني الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه مصافحة الرجل أخاه يشهد لمن استلمه بالبر والوفاء، والذي نفس ابن عباس بيده، ما حاذى به عبد مسلم يسأل الله تعالى خيراً إلا أعطاه إياه(11)، فمن رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر، حتى لا يهدم ما بناه من قرب ربه ومغفرة ذنبه وتكفير سيئاته.
_________________________
(1) رواه مسلم (16).
(2) رواه ابن ماجه (2890).
(3) الرعاية لحقوق الله، المحاسبي، ص 130.
(4) رواه مسلم (1015).
(5) رواه الطبراني (5228).
(6) رواه البيهقي (1590).
(7) رواه البخاري (1724).
(8) رواه البيهقي (4119).
(9) رواه البيهقي (9284).
(10) لطائف المعارف، ابن رجب الحنبلي، ص107.
(11) مصنف عبدالرازق (8919).