يرتبط الإنسان بتاريخه، منذ أن تتفتح عيناه في هذه الدنيا، حتى لحظاته الأخيرة فيها، ولم يكن التاريخ إلا تأريخًا لمحطات الإنسان وبيئته ومجتمعه، وصورًا من زمنٍ أفل ومضى، ومن ثمّ أصبح التاريخ تسجيلًا لما مر على الإنسانية من تطورات.
وقد ذكر الباري جل وعلا في القرآن الكريم إشارات إلى قصص الغابرين لأخذ العبرة منها، فقال تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 176)، وقال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ) (يوسف: 3).
وأمام أهمية ما جرى مع الأولين، وقصصهم وتاريخهم، يُعطينا علم التاريخ تصوّرًا دقيقًا وواضحاً عن العالم، والأزمنة السابقة، وما حوته هذه الأزمة من تجارب وقصص ومحطات وعبر ودروس، نتعرف من خلالها على سيرورة الحضارات الإنسانية، وكيف قامت وما عوامل ازدهارها ونهضتها وأسباب دمارها وزوالها، وفوق ذلك له أهمية مركزية في الاستنباط والتعليل وغير ذلك.
وحول هذه الأهمية والمكانة، وصف العلامة ابن خلدون التاريخ، وتحدث عن أهميته ومكانته فقال: «فإنّ فنّ التّاريخ من الفنون الّتي تتداوله الأمم والأجيال وتشدّ إليه الرّكائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيّام والدّول، والسّوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدّي لنا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال، واتّسع للدّول فيها النّطاق والمجال، وعمّروا الأرض حتّى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزّوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق».
هذا من الأهمية العامة لهذا العلم، فكيف وقد حاول المعتدون وأعداء الأمة أن يشوهوا تاريخنا، ويزرعوا في عقول النشء تاريخًا مشوهًا وماضيًا لا يشبه حقيقة ماضيهم، لذلك أصبح تاريخ الإسلام بشكلٍ عام، وتاريخ فلسطين بشكلٍ خاص ثغرةٌ يجب حراستها والذود عنها، حتى لا يؤتى الإسلام أو فلسطين من قبلها، فقد أصبح تاريخنا هدفًا لسهام المشككين والمُنكرين والأعداء والجهلة، تمامًا كما هي علوم الشريعة الإسلامية من عقيدة وفقه وحديث.
وفي سياق العمل على إظهار ولو أجزاء بسيطة من هذا التاريخ الممتد، وتلك الإنجازات العظيمة، نقدم لقارئ مجلة «المجتمع» الكريم، إطلالة على أبرز محطات التاريخ الإسلامي في بيت المقدس، درة بلاد الشام، وعاصمة فلسطين، وواحدة من أبرز حواضر الأمة في تاريخها العظيم، وقد كانت القدس عبر القرون الإسلامية المتتابعة مركزًا فكريًّا وثقافيًّا وإيمانيًّا ودينيًّا، وهو ما أسهم في المزيد من تطورها الثقافي والعمراني والحضاري.
ونتناول في هذه السلسلة أبرز ما مرّ على هذه المدينة من الدول الإسلامية المتعاقبة، ونسلط الضوء على ما ضمته هذه المدينة في جنباتها من علماء وشخصيات ورموز ومصلحين، ومن مرّ عليها معلمًا أو متعلمًا، وكيف اهتمّ بها الخلفاء والحكام والسلاطين، لتعطي هذه السلسلة عند انتهائها صورة من هذا الاهتمام الإسلامي بالمدينة، وأجزاء من تاريخها العلمي والفكريّ والاجتماعي، لنؤكد أهمية الحفاظ على هذا التاريخ العظيم، وأن استعادة هذا الإرث في الدفاع عن واقع المدينة وأهميتها جزءٌ من مغالبة العدو ومواجهة صلفه وعدوانه.