الصياغة
تتميز رواية “غيوم فرنسية” بشيء من حيوية العرض والتصوير، ومحاولة الإقناع بوجهة نظر الشخصيات الروائية، ولكنها تفتقر إلى الأدوات الأساسية في التعبير، وفي مقدمتها النحو. والإملاء، فالرواية على امتداد ما يقرب من ثلاثمائة صفحة مليئة بأخطاء النحو والصرف والإملاء، فضلًا عن الركاكة التعبيرية في بعض الجمل.
قليلة هي الصفحات التي تخلو من الأخطاء الأولية.. يجب أن يترفع عن هذه الأخطاء من يجعل الأدب حرفته أو هوايته، ولو أخذنا بعض النماذج عشوائيًا لهالنا العدد الكبير من الأخطاء، وأحيانا تجد الصفحة الواحدة تحمل مجموعة من الأخطاء وليس خطأ واحدًا.
خذ مثلًا ص48 تقول الرواية ” ولكن هناك سؤال مهم أعتقد أن قليلًا منكم هو من أدرك إجابته..”، والصواب: “ولكن هناك سؤالًا مهمًا أعتقد..” (اسم لكن)، وبعد هذه الجملة أو العبارة تقول الرواية في الصفحة نفسها: ” وكان واضحًا أن وضعهم صعبًا ” والصواب: “وأن وضعهم صعب”، (خبر إن)، “وأن بقائهم في مصر أمرًا لم يعد مؤكدًا”، والصواب: “وأن بقاءهم في مصر أمر …”، (خبر أن)، وفي الصفحة ذاتها أيضًا: ” ولكني كنت واثقًا أنه راحلون وأن بقائهم لن يدم طويلًا..”، والصواب: “ولكني كنت واثقًا أنهم راحلون، وأن بقاءهم لن يدوم طويلًا”، وهنا اختلطت أخطاء الطبع بالإملاء بالنحو..
خذ مثلا أيضا ص 176 تبدو فيها الأخطاء شبيهة بأخطاء من يكتبون على شبكة الإنترنت. تقول الرواية: “كنت أتوق إلى باريس. لم أر هذه المدينة من قبل، والصواب لم أر بحذف حرف العلة لأن الفعل مجزوم بعد لم. وفي الصفحة ذاتها: “ولكني أرى فيكي ما لم أره في أخريات..”، والصواب: فيكِ تحتها كسرة، وهي أخطاء تشيع بين من لا يحسنون الكتابة ويكتبون أنتِ بصورة (أنتي)، بل إنها كتبتْ الفعل (ناضلتِ) بالصورة نفسها، ممدود التاء بحرف المد “ناضلتي” (ص 178). ومثله الفعل رأيت “وكما رأيتي يا جين ” (ص 181) والصواب: “وكما رأيتِ…”.
في (ص 183) – وما زال الاختيار عشوائيا- تتتابع هذه الأخطاء (وظللت أتسائل)، والصواب أن تكون الهمزة على السطر “أتساءل “، “قد يفعلوا ذلك”، والصواب “يفعلون” لأنها غير مسبوقة بناصب ولا جازم، “لن يخسروا شيء”، والصواب: “لن يخسروا شيئا”، لأنها مفعول به. “لم تغفو عيناي”، والصواب: “لم تغف” مجزوم بحذف حرف العلة بعد لم.
يمكن أن نسود صفحات عديدة بمثل هذه الأخطاء التي لا يليق أن يقع فيها أديب أو كاتب، تروّج له الصحف والمواقع وأجهزة الدعاية المرئية والمسموعة. هناك من يتحدث عن ضرورة وجود المحرر الأدبي الذي ينبغي أن يعمل قلمه في النص قبل نشره. وهذه مسألة مقبولة إذا كانت تتعلق بطريقة إخراج النص من حيث العناوين وترتيب الفصل ونحو ذلك، أما أن يكون المحرر الأدبي بديلا للكاتب، ويعيد صياغة النص وتصحيحه، فالأمر يطرح سؤالا: ماذا بقي للمؤلف إذَا؟
يقال إن الرواية ترجمت إلى بعض اللغات الأجنبية فهل يسمح ناشروها الأجانب أن يكون هناك خطأ لغوي واحد في أي من هذه اللغات؟ كلا..
المعجم
تمنيت أن تهتم الرواية باللغة مثلما اهتمت بالمعجم الكنسي الذي سادها، والحرص على إبراز اهتمام الشخصيات الروائية بما يسمى اللغة القبطية. واستخدام النصوص الإنجيلية.. (ص 13). ومن الطبيعي والمناخ طائفي أن تكون اللغة الكنسية حاضرة، وأذكّر أن هناك حاضنة أكبر للغة أخرى، هي لغة المجتمع العربي ولها معجم إسلامي لا ينكره أحد.
[يا رب ارحم. شعب الكنيسة وخدامها، أبونا. الأنبا، الكاهن، المطران، متروبوليت، البطرك، الرهبنة. الإكليروس، النواقيس، القداس، الصليب، الكرازة، التراتيل، التناول، الشموع، العنصرة، الغفران، الأغراب (يقصد بهم المسلمون، وهو مصطلح شائع في أدبيات الكنيسة حتى اليوم) ميطانية وجمعها ميطانيات، الشمامسة، القبط والقبطية والأقباط، القباطي، الذوكصا ” وأبؤرو أندى دي هيريني”يا ملك السلام أعطنا سلامك، قدّس الله روحه، ” لم يأت المسيح ليجعلنا ضعفاء..” ص23،
جي بينوت إتخين ني فيؤوي. ماريف توفو أنجيه بيكران- أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك.. ص، 148
أيقونة، الترنيم، النعام، البيضة، الكاثوليك، زهور الميلاد، جنسنا (النصارى). الشهور القبطية (توت، كيهك، طوبة، بؤؤنة..)، العدرا، (العذراء)، ملكوت السموات،
“لا أعرف لماذا قررت أن أدون ملاحظاتي باللغة القبطية، وليس بالعربية، ربما لشعور الغريب الذي يخشى أن تقرأ أوراقه..” ص 88.
لقد اشتقت للحديث باللغة العربية. ص 120 (جين تعتذر لأختها). مفارقة بين التمسك بالقبطية والاشتياق للغة العربية.
- القبطية؟ وهل أنتم القبط لكم لغة خاصة غيرنا نحن؟
- اللغة القبطية هي لغة كل المصريين قبل أن يأتي العرب المسلمون إلى مصر.. ص 234
هناك استخدام لبعض المصطلحات التي كانت شائعة في زمن الحملة الفرنسية مثل: العكسة أي المداهمة، والصلدات بمعنى عساكر فرنسا، ولم تحاول الرواية أن تقدم المعنى المقصود بصياغة فنية أو بطريقة مباشرة، وهو ما يوقع القارئ في حيرة فهم اللفظ.
الركاكة
وتبدو بعض التعبيرات ركيكة الصياغة ضعيفة التركيب، مثل: ” لم تستطع أن ترى فضل كانوا المسافرون في مراكبهم يستعدون للرحيل” ص 56. و”عدت إلى غرفتي ربما حديثنا أنا ومصطفى عن ذكريات الطفولة ربما الوجوم على الوجوه والحزن المكتوم على يعقوب، هما ما جعلا ذكريات شيخ العرب همام ودولته تحاصرني..” (ص 75)، و”أعلم أني لا أعرف المهاجرين جميعا، ولكنني متأكدا (..)أن هذا الإسم (كذا!) غير الشائع إن كان قد وجد فسيكون معروفا”، (ص 206).
التصوير
تقدم الرواية بعض الصور الجزئية والمشاهد الحية في أكثر من موضع، ومن الأولى: “جسد كأنه بركان لا يسمح لأحد أن يهرب من فوهته” (ص، 141)، و”جسدها المندّى بقطرات الشهوة” (ص 141)، “صوتها يعلو مصحوبا بتأوهات سكارى من نبيذ العشق” (ص 142)، و” طوى الحب الإحساس بالوقت، فإذا بنا على مشارف باريس” (ص 177)، “وكان هو قشة وكنت أنا نخلة” (ص 201).
بيد أن المشهد الذي قدمته الرواية بإتقان هو المشهد الحميم بين فضل وفرانسواز، لقد وصفته الرواية وصفا دقيقا، حوّله إلى مشهد إباحي بامتياز، وكان يمكن الاكتفاء بإشارة رمزية تؤدي المعنى المطلوب ولا توقعه في فخ الإباحية المرفوض. (ص 140- 143).
ثم هناك مشاهد الهزيمة التي تلقاها جيش نابليون في روسيا ومواجهتها للثلوج وهي منسحبة وموت الجنود والقادة، وقد جاءت هذه المشاهد مترعة بالوصف الحي، ويعود ذلك إلى الوعي بتفاصيل المعارك التي تشير إلى جهد روائي لا مجال فيه للتلاعب بالتاريخ. (ص 267 وما بعدها).
الحوار
يقوم الحوار بدور مهم في التعبير عن وجهة نظر الشخصيات الروائية، بالإفصاح عن ماضيها وحاضرها وما تتوقعه في المستقبل، كما يعرض وجهات النظر وأفكار الخونة الهاربين وعلاقتهم بالمهجر وقادته العسكريين وغيرهم، فضلا عن عرض الحلم الذي يسعون إليه بتحرير مصر من العثمانيين والمماليك أو المسلمين، ويبدو الحوار في مجموعه معقولا، بعيدا عن التزيد والإطناب والإسهاب، ولكنه أقرب إلى الحوار الطبيعي غير المتكلف، وها هي بعض نماذجه.
يدور حوار بين محبوبة وفضل حول يعقوب، بعد أن سمعت حوارا بين ضيوفهما فيه تمجيد له ودعوة للانضمام إلى الفرنساوية، فتقول لزوجها بعد انصرافهم:
- “لا تسمع كلام أبي. لا تنضم إلى الفرنساوية. لا أفهم كيف تفكر أن تنضم إلى يعقوب وأنت تعلم جيدا أنه قبطي فاجر.
- غريب أمرك يا محبوبة. أنسيت خوفك وهلعك.. أنسيت بكاءك منذ قليل في حضني.. الآن يعقوب قبطي فاجر! ومنذ قليل كان البطل الذي احتمى فيه النصارى وأنقذ حياة الآلاف!
- ما فعله يعقوب في العكسة، المسيح سيكافئه عليه. هذا موقف وانتهى، ولكن هذا لا يعني أن تنضم له وتكون من رجاله مع الفرنساوية، وأنت تعلم أن البطرك غير راض عنه.
- أبوك هو الذي اقترح عليّ، ألم يحدث هذا أمامك؟ لماذا صمتِّ ولم تعترضي أمامه؟ ….” (ص 21- 22).
وفي هذا الحوار الطويل نسبيا نجد تعبيرا عن موقف كل من الزوجين محبوبة وفضل من اللحاق بالحملة العائدة إلى فرنسا. الزوجة تريد البقاء في مصر وتجد أسبابا للبقاء، والزوج يصر على السفر، ويطرح أسبابا له. هي ترى أن يعقوب قبطي فاجر، وتقرر في الوقت نفسه أن النصارى يتعرضون للذبح كما تزعم الرواية، وأن دفاع يعقوب عنهم ليلة العكسة أو المداهمة من قبل المسلمين عمل يكافئه عليه المسيح! ولكنه لا يبرر السفر مع الحملة. هو يستغرب موقفها ويذكرها أن أباها هو الذي اقترح السفر ولم تعترض عليه..
وهكذا يسير الحوار في الدفاع عن خيانة يعقوب وإسباغ البطولة علية وتبرير السفر معه برفقة الحملة المنسحبة من أجل تحرير الطائفة المهددة بالذبح من جانب المسلمين. أو ما تسميه الرواية باستقلال مصر.
وهذا نموذج آخر يؤرخ لإنشاء المجمع العلمي بمعرفة الحملة الفرنسية من وجهة نظر الفرنسيين، حيث تضمنت صحيفة الحملة وثيقة تكشف عن الحالة الراهنة لمصر، وترى أن الأبحاث المتعلقة بها تقدم موضوعا مهما للفلسفة والسياسة، وأن القوانين والعادات والتاريخ والحكم والصناعة والتجارة وإيرادات هذا البلد تستحق دراسة أشمل لا يمكن انتظارها من الرحالة الفرنسيين أو الأجانب..
- “لم أفهم شيئا. ما هذه الصحيفة؟ وما هذا المشروع الذي تتحدث عنه؟
قالت زهرة:
- المجمع العلمي.
- ما هذا المجمع العلمي؟
- عندما جاء نابليون إلى مصر. أحضر معه حوالي مائة وستين عالما وفنانا في كل المجالات، يدرسون كل شيء فيها، عملت معهم في المجمع العلمي في بيت حسن كاشف جركس القديم، وبيت منصور كتخدا السناري….” (ص 232).
لم يكن إنشاء المجمع حبا في سواد عيون المصريين ولكنه من أجل خدمة الغزاة في الحاضر والمستقبل، ومعلوم أن حركة الاستشراق سبقت الجيوش الاستعمارية الغازية لتضيء الطريق أمام الجنود وتوضح القدرات والإمكانات ونقاط القوة والضعف مما يسهل عليهم إنجاز مهماتهم في السيطرة والهيمنة والنهب والاستغلال. ويأتي المجمع العلمي الفرنسي ليختصر مسافات طويلة من البحث والمعرفة التي تخدم فرنسا الاستعمارية وليس مصر المستباحة.
وهذا نموذج ثالث لحوار قصير بين الضابط الفرنسي سيفيز الذي جاء إلى مصر ليؤسس جيشا لمحمد على باشا، وفضل الصغير يكشف عن أحلام المستقبل وسبقت الإشارة إليه:
“نظر فضل إلى هذا الفرنسي مبهورا بما يحكيه عن أبيه، حالما بهذا الجيش العظيم في مصر ثم سأله:
- أنت المسئول عن تأسيس جيش لمصر؟
أجابه سيفيز بابتسامة كبيرة:
- نعم مسيو فضل.
- هل أستطيع أن ألتحق بالجيش لأكون ضابطا عظيما مثل أبي؟
وقع قلب محبوبة. هلعت. فرنسي آخر يأتي ليأخذ فضل. هل ستحرمها شهوة السلاح من زوجها وابنها؟
أجابه سيفيز:
- إذا ما أتيحت لك الفرصة فمن المؤكد ستكون قائدا عظيما مثل والدك”. (ص 285).
هذا الحوار جاء في ختام الرواية وكأنه يشير إلى فكرة تحقيق الحلم الطائفي بامتلاك القوة لتحرير مصر من الإسلام والمسلمين الذين ظهروا في الرواية في صورة الهمج مصاصي الدماء!
التضمين والاقتباس
تحفل الرواية بنصوص عديدة من الانجيل والأغاني والوثائق والرسائل لخدمة السياق السردي الطائفي..
تلجأ محبوبة إلى الدعاء بعد أن احتوتها الوحدة والظلام بمنزلها شبه المتهدم في ليلة شديدة القسوة، عقب غارات المسلمين أو مداهمتهم لحارة النصارى الجوانية، وهو دعاء إنجيلي تقول فيه: “يا رب استمع صلاتي، وأنصت بحقك إلى طلبتي. استجب بعدلك، ولا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتزكى أمامك كل حيّ، لأن العدو قد اضطهد نفسي، وأظل في الأرض، أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر” (ص، 13).
ومن أجل الإيمان بفكرة “لاهوت التحرير” والترويج لها وتبرير التمرد على الأكثرية الساحقة، يتكلم فضل عن دور المسيح في علاقته مع اليهود، ويقتبس مقولة إنجيلية له: “لقد خرق النظام اليهودي عندما وجد أن الناس أصبحوا تابعين للفرض، وكانت معجزاته تعمدا في أيام السبت، قائلا: “لقد جعل السبت للإنسان، ولم يجعل الإنسان للسبت..” (ص، 65).
وفي حوار بين أنستازي وفضل، تورد الرواية ما تعده وثائق لما يسمى الوفد المصري، أو الخونة الهاربين إلى فرنسا، من أجل استقلال مصر عن المسلمين، ومنها الوثيقة المنسوبة إلى نمر أفندي بالنيابة عن الوفد المصري وهي موجهة للقنصل الأول بونابرت، ومحررة في 23 سبتمبر 1801= 18 صفر 1216 ويطلب فيها مد يد المساعدة للمصريين “البؤساء الذين حطمت في الماضي أغلالهم والذين عادوا ينوؤون بها من جديد” ويأمل أن تكون مصر مستقلة وتعوض عليك خسارتك مائة مرة، (ص، 205)
وفي لقاء بين الأب عبد الملك وفضل يقرأ الأخير أحد الخطابات المرسلة من القبطان إدموندس ربان السفينة الإنجليزية الحربية بالاس مؤرخة في4 أكتوبر 1801م ويشير في الخطاب إلى وفد مصري يقيم في باريس، ويتحدث عن يعقوب أحد زعماء الطائفة وصاحب النفوذ الكبير الذي منحه الفرنسيون لقب جنرال، وهو معني بأن أي أنواع الحكم في مصر أفضل من حكم الترك لها وأنه انضم للفرنسيين “تلبية لباعث وطني(!)عله يخفف عن بعض مواطنيه ما قاسوه، وأن الفرنسيين خدعوهم..” ويشير الخطاب إلى رغبة الوفد في حكومة عادلة حازمة وطنية مثل حكومة الشيخ همام العربي في الصعيد، ولها جيش وطني يستطيع رد العدوان كما توضح رسالة أخرى من المدعو نمر أفندي.. (ص 239-243)
توظيف هذه الرسائل لمناقشة فكرة الاستقلال عن المسلمين، والاستعانة بالفرنسيين تارة والإنجليز تارة أخرى تبرير للخيانة الوطنية، والتعصب الطائفي السافر الذي يزوّر التاريخ عندما يقلب الحقائق، ويصور وحشية مزعومة يمارسها المسلمون، بينما هؤلاء كانوا ضحايا الاستبداد مقابل الرفاهية التي يعيشها زعماء الطائفة وعلى رأسهم يعقوب، وهو ما أوضحه أحمد حافظ عوض، مؤلف كتاب نابليون بونابرت في مصر، الذي سبقت الإشارة إليه.
هناك مقتبسات أخرى من الأغاني واللافتات والخطابات وكلها موظفة لخدمة فكرة الرواية التي تسعي لتبييض صفحة الخيانة الطائفية بعد ترسيخ فكرة المظلومية والاضطهاد والكراهية.
ومثلما يتم توظيف الاقتباسات والتضمين لخدمة الفكرة الروائية يحدث الشيء نفسه بالنسبة للأحلام والكوابيس كما سبقت الإشارة (ص، 39، 51).
الهوية الإسلامية الإنسانية
لم تسع الرواية عن عمد، إلى عرض الرؤية الإسلامية الإنسانية، والتعرف على أبعادها حين أتاحت لكل الملل والطوائف أن تعيش في رحابها آمنة مطمئنة وتتفاعل معا بالفكر والرأي والإنتاج، لأن المنطلق الطائفي القائم على الاتهام والتعصب الكراهية كان أقوى وأكثر حضورا، ولو حاولت الرواية استجلاء الفكرة الإسلامية لوجد مساحة إنسانية غير مسبوقة من الرحابة والتسامح الذي يصل أحيانا إلى حد السذاجة والتفريط وتمكين الخصوم من رقاب المسلمين. ومن المؤسف أن التلاعب بالتاريخ، واعتماد رؤية أحادية متعصبة يطيح بموضوعية الفن إن صح التعبير، ولعل وصف الجبرتي ليقوب باللعين يلخص القضية كلها.
إن البحث عن صياغة وطنية مصرية لكل طوائف السكان على الأرض المصرية، قصور معرفي يتجاهل رحابة الإسلام وتسامحه الذي جعل الشاعر ابن البواب 350- 413هـ= 961- 1022م)، يقول ذات يوم بعد أن ارتفع المد الطائفي فوق مد الأكثرية الإسلامية:
يهود هذا الزمان قد بلغوا *** غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهــم والمال عندهــم *** ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر قد نصحت لكم *** تهودوا قد تهود الفلك
ولا بأس أن تستبدل “تنصروا” “بتهوّدوا” فقد تنصر الفلك!
الرؤية الإسلامية لمن أراد أن يبحث عن الحقيقة أكثر إنسانية من الرؤى المحلية الطائفية الأنانية الضيقة.
وإذا كان بعض أفراد الطوائف تعرضوا لبعض طغيان العامة، فإن المسلمين عاشوا تحت طغيان الخاصة والعامة الذين يملكون السلاح والقوة أكثر مما يتصور أحد، وهم في مقاومتهم للطغيان لا يبحثون عن نصرة عدو، ولا يخونون وطنا.
إن كراهية بعض الطائفيين للإسلام والمسلمين وفي مقدمتهم لويس عوض، دفعتهم إلى تنصيب يعقوب أول داعية لاستقلال مصر، تحت راية طائفية انعزالية تحتمي بالمستعمر أو العدو التاريخي للإسلام والمسلمين (فرنسا وإنجلترا)، وهو استقلال زائف، لأن العدو التاريخي لا يحقق استقلالا حقيقيا لأحد، فضلا عن أنه يحتقر الطائفة بحكم الاختلاف المذهبي، ويرسخ الرؤية العنصرية الأوربية التي تعد الجنس الأبيض فوق الأجناس الأخرى.