المسجد الأقصى أولى القبلتين، ومسرى رسول الله ﷺ، فلا يجوز شدّ الرحال إلا لثلاثة مساجد، ثالثها المسجد الأقصى، وإن لهذه الأرض الطيبة مكانة خاصة في ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وصراعنا مع قوى الشر قديماً وحديثاً، وليست مجرد أرض كأيّ أرض، وليست هي بقعة كبقع الأرض الأخرى، إنها بقعة ارتبطت بديننا، وارتبطت بعقيدتنا ارتباطاً وثيقاً، كيف لا وفيها المسجد الأقصى، وما أدراك ما المسجد الأقصى الذي لربما كثير من المسلمين يجهلون رمزيته ومكانته التاريخية العظيمة.
وقد وردت نصوص شرعية كثيرة تصرح بأهمية المسجد الأقصى، أهمها:
1- مسرى رسول الله ﷺ:
قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1).
وفيها إشارة إلى التواصل بين المسجد الحرام، والمسجد الأقصى؛ فمعجزة الإسراء والمعراج من أعظم معجزات نبينا محمد، وهي ثابتة في الكتاب والسُّنة؛ حيث أسري به من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وأَمَّ الأنبياء فيه عليهم السلام؛ ومنه عرج به -صعد- إلى السماء، وفيها فُرضت الصلوات الخمس المكتوبة، وذلك لأهمية القبلة الأولى للمسلمين، ولأن بيت المقدس كان مهْد كثير من الأنبياء قبله ﷺ، فحصل له الرحيل ليجمع له فضائل عدة كرماً من الله إليه.
وإن الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد ﷺ خاتم النبيين، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول ﷺ الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعاً.
2- منطلق معراجه ﷺ إلى سدرة المنتهى:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ».
3- أولى القبلتين:
كان الرسول ﷺ في مكة يصلي بين الركنين الأسود واليماني، فتكون الكعبة بين يديه، وهو مستقبل بيت المقدس، فصلى إليه عدة أشهر، فعن البراء بن عازب أن النبي ﷺ كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده –أو أخواله- من الأنصار، وأنّه صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت الحرام، وأنّه صلى صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل فيمن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله ﷺ قِبَل مكة فداروا كما هم، قبل البيت، وكان اليهود قد أعجبهن إذا كان يصلى قِبَل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولّى وجهه قِبَل البيت أنكروا ذلك.
وإن من فضائل المجسد الأقصى هو أن زيارته بنِية الصلاة مغفرة للذنوب، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عليه السلام سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا، فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ؛ فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» (مسند أحمد، رقم 6644).
ومنها: أن الصلاة فيه مضاعفة، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي ذر قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله ﷺ فقلنا: أيهما أفضل: مسجد رسول الله ﷺ أو مسجد بيت المقدس؟ فقال رسول الله ﷺ: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الأَرْضِ، حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا»، أو قال: «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (الحاكم في المستدرك، رقم 8600، 5/712) وفي (صحيح الترغيب، 1179).
ومن فضائله أن الدجال لا يدخله، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جنادة بن أمية الأزدي قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب النبي ﷺ، فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله ﷺ يذكر في الدجال، ولا تحدثنا عن غيره وإن كان مصدقًا، قال: خطبنا النبي ﷺ فقال: «أَنْذَرْتُكُمُ الدَّجَّالَ-ثَلَاثًا- فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ أُمَّتَهُ، وَإِنَّهُ فِيكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ، وَإِنَّهُ جَعْدٌ آدَمُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، وَمَعَهُ جَبَلٌ مِنْ خُبْزٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ، وَإِنَّهُ يُمْطِرُ الْمَطَرَ وَلَا يُنْبِتُ الشَّجَرَ، وَإِنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَى نَفْسٍ فَيَقْتُلُهَا وَلَا يُسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهَا، وَإِنَّهُ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، يَبْلُغُ فِيهَا كُلَّ مَنْهَلٍ، وَلَا يَقْرَبُ أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدَ الطُّورِ، وَمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَمَا يُشَبَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (مسند الإمام أحمد، 39/ 89 – 90).
على مدار عقود الاحتلال الصهيوني لفلسطين وسيطرتهم على المسجد الأقصى، يمارس المحتلون أعمال تهويد وتخريب فيه، ويعتدون على المصلين، ويستبيحون حُرمته باعتداءات واعتقالات وقتل، وتدنيس واقتحامات متكررة، وإحراق أجزاء منه في بعض الأحيان، وقد استولوا على باب المغاربة، وحائط البراق الذي حولوه إلى حائط المبكى، وحاصروا المصلين، وفرضوا أوقاتاً ومواعيد للصلاة فيه، ومنعوا أي محاولات لترميمه، وإعادة بناء ما تصدع منه، وكل سعيهم لطمس الحقيقة التاريخية بأن القدس والمسجد الأقصى وقف للمسلمين وحق لهم، وهم ورثة حقيقيون له؛ لأن دعوة الإسلام خاتمة لدعوة الأنبياء والرسالات السماوية السابقة، كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).