بعد التغيير السياسي الذي حدث في السودان، في أبريل 2019م، الذي أسفر عن الإطاحة بنظام «الإنقاذ» وإسقاط حكومة الرئيس عمر البشير، انتاب الكثيرين خاصة خارج السودان شعورٌ بالإشفاق على الإسلاميين في السودان، باعتبار أن نظام البشير كان إسلامياً؛ وبالتالي فإنه بعد الإطاحة به ينتظر الإسلاميين مصيرٌ مظلمٌ، هكذا كان بعض الشعور لدى كثير من المسلمين، وهكذا كان الأمل لدى كثير من العلمانيين ودعاة التغريب، فما الذي حدث لإسلاميي السودان خلال هذه السنوات الخمس بعد التغيير؟ وما الذي يمكن أن ينتظرهم على الأقل في المدى المنظور؟
خلفية تاريخية
ينبغي أولاً أن نحدد ما المقصود بالإسلاميين؟ وما جذور نشأتهم ومسار تطورهم بإيجاز؟
مصطلح «الإسلاميون» حينما يُطلق يُقصد به عادة المنتمون إلى المدارس والفصائل والواجهات الإسلامية التي تعود أصولها وتستقي مبادئها من مدرسة الإخوان المسلمين التي أسسها الإمام حسن البنا في مصر عام 1928م، ثم ما لبثت أن انتشرت في كل الأقطار العربية والإسلامية في وقت وجيز.
دخلت دعوة الإخوان إلى السودان في أربعينيات القرن الماضي في حياة الإمام البنا، لكن أول مؤتمر عام للإخوان المسلمين في السودان انعقد بأمدرمان في أغسطس 1954م قبيل استقلال السودان بعامين.
ثم ما لبث أن أسس الإخوان المسلمون مع آخرين قبيل الاستقلال جبهة الدستور الإسلامي للمناداة بالدستور الإسلامي على مشارف الاستقلال.
لإسلاميي السودان جذور راسخة وقديمة في سودان ما بعد الاستقلال وخبروا العمل السياسي لفترات طويلة
وفي فترة الديمقراطية الثانية (1964 – 1969م) عاد الإخوان المسلمون وأسسوا مع آخرين جبهة الميثاق الإسلامي التي ضمت سلفيين وصوفية مستقلين كواجهة سياسية واصلوا بها المناداة بالدستور الإسلامي الذي كاد أن يجتاز مرحلة القراءة الأخيرة في الجمعية التأسيسية، لولا أن أطاح بالنظام كله الانقلاب العسكري في مايو 1969م، وهو انقلاب يساري علماني يستهدف الإسلاميين بصبغته الأيديولوجية وطبيعته السياسية، وجرت بعدها مياه كثيرة تحت جسور السياسة السودانية، واستمر نظام مايو إلى العام 1985م حيث أطاحت به في أبريل من ذلك العام ثورة شعبية.
بعد انتفاضة أبريل 1985م، أسس الفصيل الأكبر للإسلاميين الجبهة الإسلامية القومية التي حلّت كقوى ثالثة في الجمعية التأسيسية وقادت المعارضة وشاركت في بعض الحكومات، إلى أن شعرت بالتآمر عليها ومحاولة إبعادها بالقوة وبتواطؤ قوى إقليمية ودولية؛ فقامت بالإطاحة بالنظام كله عبر انقلاب «الإنقاذ»، في يونيو 1989م، الذي أطيح به بعد 30 عاماً في التغيير الذي أشرنا إليه آنفاً، في أبريل 2019م.
من هذا الاستعراض الموجز المختصر يتضح أن لإسلاميي السودان جذوراً راسخة وقديمة في سودان ما بعد الاستقلال، إذ إنهم نشؤوا قبل استقلال السودان وشاركوا بفاعلية في كل الحقب السياسية التي أعقبت الاستقلال وإلى اليوم، كما يتضح أن إسلاميي السودان خبروا العمل السياسي وعركوه لفترات طويلة مما أكسبهم خبرة سياسية لم تتوفر لغيرهم من الإسلاميين بالمنطقة.
ما بعد تغيير 2019م
كما أسلفنا، فإن تغيير أبريل 2019م السياسي أطاح بنظام «الإنقاذ» الإسلامي، وتسلّم الحكم بعد ذلك د. عبدالله حمدوك اليساري القديم ذو التوجه العلماني الواضح، تدعمه قوى إقليمية ودولية ظنت أن الفرصة سانحة للقضاء على الإسلاميين، وفعلاً توالت على الإسلاميين بعد ذلك مجموعة من المحن قادها د. حمدوك ومَن وراءه من قوى محلية وإقليمية ودولية للقضاء على الإسلاميين.
توالت على الإسلاميين محن قادها حمدوك ومَنْ وراءه مِنْ قوى محلية وإقليمية ودولية للقضاء عليهم
وتمت عملية اعتقالات واسعة للإسلاميين، حتى إن الأمين العام السابق للحركة الإسلامية الزبير أحمد حسن قد توفي في السجن، وكذلك شقيق الرئيس البشير وبعض قياديي الإسلاميين، وشُنت حملات تشهير إعلامية واسعة ضد الإسلاميين، وصودرت كثير من أملاكهم، وحجزت الكثير من أموالهم، وفُصل الكثير من وظائفهم وشُردوا عبر اللجنة سيئة الذكر المسماة بـ«لجنة إزالة التمكين»، وهذا استعراض يسير لما تم من استهداف الإسلاميين بعد تغيير عام 2019م.
انقلاب الأوضاع
لكن حدث حادثان مهمان في السودان في الفترة الماضية قلبا الأوضاع رأساً على عقب، وأثّراً وما زالا يؤثران على الأوضاع السياسية في السودان ضمن تفاعلات أخرى.
الأول حدث في أكتوبر 2021م؛ إذ أصدر الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش السوداني، بياناً عسكرياً حلّ فيه الحكومة، واعتقل رئيس الوزراء د. حمدوك وبعض وزرائه، وجمّد نصوصاً من الوثيقة الدستورية التي أرادوا لها أن تكون بمثابة دستور يحكم الفترة الانتقالية، هذه الإجراءات أفقدت تحالف قوى الحرية والتغيير الحاكم (قحت) موقعه في السلطة التي تسنّمها بغير حق بمساعدة الخارج، وأفقدته أيضاً صوابه؛ فطفق يهدد ويتوعد.
على مستوى الإسلاميين، خففت هذه الإجراءات الضغوط عليهم، وألقت بآثارها السلبية على «قحت» التي فشلت في إدارة الدولة؛ مما جلب عليها السخط الجماهيري، بل وأعادت هذه القرارات كثيراً من الإسلاميين إلى وظائفهم التي فقدوها؛ لأن القرارات جمّدت «لجنة إزالة التمكين» سيئة الذكر وأبطلت قراراتها.
ولكن للأسف لم يمضِ الفريق البرهان بهذه القرارات إلى نهاياتها، فأفرج عن د. حمدوك وأعاده لمنصبه رئيساً للوزراء بعد فترة وجيزة، لكن ما لبث د. حمدوك أن استقال من منصبه في يناير 2022م في إعلان واضح عن فشله في حكم السودان في مرحلة مفصلية وخطيرة.
الحدث الثاني الذي قلب الأمور في السودان بشكل مأساوي تمرد مليشيا «الدعم السريع»، في 15 أبريل 2023م، ومحاولتها الاستيلاء على السلطة وقلب نظام الحكم بالقوة، ورغم أن كل المؤشرات كانت تقود إلى نجاح هذا الانقلاب؛ لأن المليشيا المتمردة كانت تسيطر على كثير من المواقع الإستراتيجية بالعاصمة، وبسبب الدعم الخارجي الضخم والإمداد بالسلاح والاستعانة بمرتزقة من الدول الإفريقية، فإن لطف الله، ثم صمود القوات المسلحة السودانية ببسالة عجيبة ومهنية عالية أفشل الهدف الرئيس للمؤامرة وأجهض محاولة تقويض الدولة وإسقاط نظام الحكم.
منذ بداية تمرد «الدعم السريع» وقف الإسلاميون عبر بياناتهم ومواقفهم ضده وأعلنوا دعمهم للجيش
إلا أن مأساة الحرب ما زالت مستمرة بسبب الدعم الخارجي للمليشيا المتمردة وأطماع قوى إقليمية في ثروات وأرض السودان ومقدّراته، رغم أن الجيش السوداني والحركات المسلحة المتحالفة معه والمقاومة الشعبية قد أفشلت المرحلة الأولى والأخطر من المؤامرة.
موقع الإسلاميين من الأحداث
ما أثر كل ذلك على الإسلاميين في السودان ونتائجه على مستقبلهم؟ معظم الإسلاميين منذ الأيام الأولى للتغيير الذي حدث في أبريل 2019م أحسوا أن هناك أيادي خارجية وراء التغيير، وحتى بعض الإسلاميين ممن دعموا التغيير أولاً تكشفت لهم حقائقه فيما بعد؛ فعدلوا عن موقفهم، ثم تأكد لكل الإسلاميين بعد ذلك حجم المؤامرة ضد الإسلاميين بعد تشكيل حكومة د. حمدوك في أغسطس 2019م، فالرجل يساري قديم وعلماني عريق، كما أسلفنا، وكل سياساته وخططه كانت مرتهنة للخارج.
وتأكد الأمر باستدعائه عام 2020م لبعثة الأمم المتحدة إلى السودان بخطاب أرسله دون علم من مجلس الوزراء ولا مجلس السيادة في خطوة خطيرة تنتقص من السيادة الوطنية وتضع السودان على أعتاب التدخل الدولي، ثم اتضح جلياً استهداف د. حمدوك وحكومته للإسلاميين من خلال «لجنة إزالة التمكين» والاعتقالات الكثيفة للإسلاميين، وحلّ المنظمات الإسلامية الخيرية وعلى رأسها منظمة الدعوة الإسلامية وغيرها من المنظمات.
إزاء ذلك قاد الإسلاميون معارضة قوية ضد د. حمدوك وحكومته اتسمت بالقوة والسلمية، رغم أن حكومة د. حمدوك واجهتهم بالاعتقالات والملاحقات.
مستقبل الإسلاميين
والآن بعد زوال حكومة د. حمدوك وقيام الحرب في السودان، ما موقف إسلاميي السودان؟ وإلى أين يمضون؟
منذ الأيام الأولى لاندلاع تمرد مليشيا «الدعم السريع» ضد الدولة وقف الإسلاميون عبر بياناتهم وعبر مواقفهم العملية ضد هذا التمرد، باعتباره يهدد وجود الدولة السودانية، وأعلنوا دعمهم للجيش السوداني والقوات المشتركة والمقاومة الشعبية من أجل كسر شوكة التمرد والمحافظة على الدولة السودانية وجيشها الوطني.
ما ذهب إليه الإسلاميون من مقاومة المخططات الأجنبية وكشفها هو ما انتهت إليه معظم القوى الوطنية
موقف الإسلاميين من الحرب في السودان يمثل الموقف الصحيح تاريخياً ووطنياً تسنده الحقائق التالية:
– إن استهداف الجيش الوطني استهداف لوجود الدولة السودانية نفسها، فالجيش السوداني أحد أهم ممسكات الوحدة الوطنية.
– المؤامرة على الجيش السوداني يقودها منذ عقود اليسار السوداني بأطروحته المعلنة أن الجيش السوداني جيش برجوازي يحقق مصالح الرأسمالية السودانية والأيديولوجيات الإسلامية بمختلف مسمياتها، ومن هنا جاءت ضرورة مناهضة هذا المسار اليساري العلماني.
– هناك قوى إقليمية ودولية طامعة في موارد السودان الذي يعيقها عن تنفيذ أهدافها جيش وطني متماسك ذو عقيدة قتالية صائبة؛ لذلك تسعى هذه القوى لإضعاف الجيش السوداني.
– تبنّي وتشجيع المقاومة الشعبية يمثل الصخرة التي ستتحطم عليها أوهام القوى الإقليمية والدولية الساعية لابتلاع السودان وتقسيمه وإضعافه.
– ما ذهب إليه الإسلاميون من مقاومة المخططات الأجنبية وكشفها وتعريتها هو ما انتهت إليه معظم القوى الوطنية السودانية وعدد كبير من الحركات المسلحة، وأصبح أجندة وطنية يلتقي عليها معظم أبناء السودان، ومن المؤمل أن تتعاظم هذه الكتلة السياسية الوطنية على أساس وحدة السودان؛ شعباً وأرضاً وجيشاً، ومقاومة التدخل الخارجي والأطماع الدولية يوماً بعد يوم إلى أن تُفسد المخطط الشرير وتتسيّد المشهد السوداني.