تعتبر رحلة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من التجارة إلى السلطة من الرحلات المثيرة للاهتمام، إذ تجسد الأزمة السودانية بتحولاتها المختلفة، وصولاً إلى آخر تمثلاتها في نسختها الأخيرة التي أنتجت حرب تمرد 15 أبريل 2023م، والمتتبع لبدايات هذه الرحلة سيجد نفسه أمام مشروع سلطوي قديم، خُدم بعناية وحرص شديدين، أخذ يتطور ويتمدد شيئاً فشيئاً، مستغلاً ضعف الدولة ونظامها السياسي تارة، وموظفاً الاصطفافات القبلية تارة أخرى، في إقليم مليء بالصراعات المطلبية (السياسية والاقتصادية) ومعبأ بالمواجهات الجهوية.
نشأ حميدتي في بادية شمال دارفور، حيث ينتمي إلى الماهرية، وهم فرع من عرب رزيقات الشمال الذين يمتهنون حرفة الرعي، وخصوصاً رعي الإبل؛ لذا يطلق عليهم «عرب أباله»، في حدود عام 1983م بدأت أول التحولات العنيفة، حيث اجتاحت تلك المناطق موجة جفاف عنيفة قضت على الأخضر واليابس، ودفعت الكثيرين من أبناء تلك المناطق إلى تغيير أنماط إنتاجهم التقليدية (الرعي والزراعة) إلى أنماط إنتاج أكثر أمناً تسعفهم بالمحافظة على ثرواتهم من الضياع والتلف، فاتجه معظم سكان تلك المناطق إلى التجارة الحدودية، وذلك بحكم موقع إقليم دارفور الجغرافي المتاخم لبعض الأسواق في ليبيا وتشاد المجاورتين.
حميدتي نشأ في بادية شمال دارفور وينتمي إلى الماهرية وهم فرع من عرب رزيقات الشمال يمتهنون رعي الإبل
ومن ضمن هؤلاء كان محمد حمدان الذي انخرط مدفوعاً نحو النشاط التجاري استجابة للتحديات الطبيعية القاسية التي اجتاحت المنطقة، ونشطت تجارته من نوحي دارفور عن طريق الكفرة ثم إلى مصراتة في العمق الليبي، إذ أصبحت مسألة المحافظة على الثروة التي تمثلها قطعان الإبل موازية لحالة البقاء والوجود، إذ يعتبر أي تهديد يستهدف قطعان الإبل خاصتهم بمثابة تهديد مباشر لوجود هذه المجموعات الرعوية في المنطقة؛ لذا كان من أهم متطلبات استمرار الحركة التجارية واستقرارها ضرورة تأمين الطرق التجارية من وإلى مناطق الإنتاج والأسواق.
ساهمت أزمة التمدن وتأخره في دارفور والمتمثلة في تقليدية أنماط الإنتاج، وشُح توفير الخدمات الأساسية نتيجة للضعف والإهمال الحكومي، إضافة إلى الظروف المناخية والطبيعية القاسية في تردي وسوء الأوضاع المعيشية لمعظم سكان الإقليم؛ ما دفع عدداً من المجموعات المسلحة التي تنتمي إلى مكونات اجتماعية ذات أصول أفريقية بإعلان تمردها على الدولة، معبأة ببعض المطالب السياسية والاقتصادية بغية تحسين أوضاعها في الإقليم.
وكان أول ما استهدفته الحركات المتمردة الحواضر (المدن) المهمة في الإقليم، مستهدفة بذلك الأسواق، وطرق التجارة التي تعرضت للنهب والسلب، كما استهدفت النقاط والمراكز الحدودية لتعطيل الحركة التجارية، لضرب مشروع الاستقرار الذي لم يمكث طويلاً أصلاً.
إستراتيجية المليشيا
منذ اندلاع التمرد المسلح في دارفور عام 2003م، وما ترتب عليه من تعطيل للنشاط التجاري، وجد حميدتي نفسه كحال بقية التجار أمام تحدٍّ جديد لا طاقة لهم بمواجهته، إذ لجؤوا للدولة لمساعدتهم في مواجهة خطر التمرد الذي بات يتعاظم خطره من جهة، وبدأت تتآكل معه قاعدتهم التجارية ومصدر كسبهم من جهة أخرى، مستفيدين في ذات الوقت من رغبة الدولة في القضاء على التمرد وبسط سيطرتها على الإقليم المضطرب.
بانضمامه إلى صفوف قوات «الجنجويد» كانت هذه أول تحولات محمد حمدان التاجر إلى حميدتي المقاتل
كانت الحكومة في الخرطوم قد أعلنت في وقت سابق عن إستراتيجيتها لمواجهة التمرد والقضاء عليه في دارفور، عن طريق تكوين مليشيات الجنجويد (المجموعات العربية في دارفور) التي بدأت تأهيلهم في معسكرات خاصة، تحت مظلة قوات حرس الحدود بقيادة الزعيم العشائري موسى هلال، زعيم قبيلة المحاميد، التي آثر أن ينضم إليها حميدتي مع مجموعة من أهله المتضررين، ليكون ضمن صفوف أفراد الاستخبارات التابعين لها، وكانت هذه أول تحولات محمد حمدان التاجر إلى حميدتي المقاتل.
التمرد الأول لمحمد حمدان (حميدتي)
في الفترة من عام 2003 – 2005م صالت وجالت مجموعات «الجنجويد» مستهدفة بشراسة مواقع التمرد في ملاحقتها للحركات المسلحة، مخلفة وراءها الكثير من الجرائم الإنسانية والانتهاكات؛ مما لفت أنظار العالم إلى قضية دارفور بجانبها اللاإنساني، كان وقع هذه الأحداث على عدد من رموز النظام السياسي في السودان قاسياً جداً، بحيث أصبحوا مطالبين دولياً من قبل المحكمة الجنائية، بمن فيهم رئيس الجمهورية وزعيم المحاميد هلال نفسه؛ الأمر الذي دفع الحكومة إلى تغيير خطتها، عبر الإسراع في تحقيق سلام تستدرك به أخطاءها، وبدأت على الفور التفاوض مع أحد فصائل التمرد (فصيل أركو مناوي) الذي توج باتفاق أبوجا عام 2006م، بموجبه حصل أركو مناوي على قسمة من السلطة، وعُين مستشاراً لرئيس الجمهورية.
بعد نجاح «الدعم السريع» في أزمة دارفور تطلع حميدتي لممارسة أدوار خارجية بمشاركته بـ«عاصفة الحزم»
شعر حميدتي ومقاتلوه بالإهمال من قبل الحكومة، لعدم مكافأتهم بصورة مجزية توازي تضحياتهم، وعلى إثر ذلك جمع مقاتليه، وكوَّنوا قوة تحت مسمى «الوعد الصادق»، وأعلنوا تمردهم على النظام، مستأثرين بعدد لا يستهان به من السيارات والأسلحة الخفيفة وأجهزة الاتصال.
ظهور «قوات الدعم السريع»
بعد أن قامت حركة العدل والمساواة السودانية بقيادة خليل إبراهيم عام 2008م بتنفيذ عملية «الذراع الطويل» التي استهدفت العاصمة الخرطوم، عزمت الحكومة هذه المرة على القضاء على التمرد نهائياً في دارفور، عبر تأسيس قوة عسكرية سريعة أكثر فتكاً عن سابقاتها، مع مراعاة الجوانب المهنية والتنظيمية، والتشريعية في تأسيسها، لذلك عمدت السلطات السودانية على إجازة قانون ينظم «قوات الدعم السريع» من داخل البرلمان في يناير 2017م.
شكلت هذه المرحلة مساحة جديدة من النفوذ لحميدتي، إذ لأول مره بات مستقلاً بقوة لا يُستهان بها، وقام هو بأدوار مُرضية للحكومة خاض معارك عديدة استطاع من خلالها أن يقضي على جذوة التمرد، وأعاد الاستقرار النسبي لإقليم دارفور، بالمقابل مدّته الحكومة بالمزيد من السلاح والعتاد، والمال، ولأول مره أصبحت هنالك مؤسسة شبه عسكرية تديرها أسرة آل دقلو محمية بقانون وتشريع، وذات نفوذ كبير واستثمارات ضخمة.
من بعد النجاح الكبير الذي حققته «قوات الدعم السريع» في إدارة أزمة دارفور، بدأ يتطلع حميدتي لممارسة أدوار خارج الإطار المحلي، وسنحت الفرصة من خلال المتغيرات في منطقة الخليج عبر مشاركته بقواته في «عاصفة الحزم» عام 2017م، التي انخرطت فيها الحكومة السودانية مقابل إعادة توطيد علاقاتها مع النادي الخليجي، مقابل حصولها على بعض الدعومات المالية لمواجهة تحدياتها الاقتصادية التي كانت تحيط بها من كل جانب تقريباً.
ثورة ديسمبر 2018م مهدت الطريق لـ«الدعم السريع» بالاستحواذ على نصيب غير مسبوق من السلطة
بفضل مشاركته الخارجية، استطاع حميدتي أن يضاعف أعداد قواته لتتجاوز 20 ألفاً بحجة تعزيز قواته في «عاصفة الحزم»، كما ولأول مرة ارتبطت مؤسسته العسكرية بأذرع إقليمية وعالمية («فاغنر» الروسية)؛ مما ساعده ذلك على خلق مجال حيوي إقليمي وعالمي جديد ذي أبعاد جيوسياسية، فضلاً عن تطويره لجملة من العلاقات العسكرية والاستثمارية في غاية الأهمية، كما توفرت له مداخيل مجزية وثروة طائلة ساعدته على تجنيد المزيد من الشباب، من داخل وخارج السودان، كما ساعدته على رفع كفاءة قواته وتطوير قدرات نوعية في التسليح والتأهيل.
حميدتي من بعد الثورة السودانية
شكلت فترة ثورة ديسمبر 2018م، والمرحلة الانتقالية التي تلتها أهم مراحل التي مهدت الطريق لـ«قوات الدعم السريع» بالاستحواذ على نصيب مقدر وغير مسبوق من السلطة خصوصاً على المستوى السيادي، سواء بصورة مباشرة عبر تنصيب حميدتي كنائب لرئيس مجلس السيادة الانتقالي، أو بصورة غير مباشرة من خلال مد أذرع «قوات الدعم السريع» في بعض المناصب السيادية الأخرى، وتحكمها في بعض مؤسسات الدولة الحيوية.
حميدتي وظَّف كل الفرص الداخلية والخارجية مستغلاً ضعف النظام السياسي وتبني أجندة المحاور الإقليمية
بات المناخ مهيأً أكثر من أي وقت مضى لحميدتي للتقدم نحو تحقيق مكتسبات إضافية لمصلحة مشروعه السلطوي، وكسب أراضٍ جديدة على حساب الثورة وسياسييها الأغرار، لتقوم مؤسساته بالتمدد على حساب المؤسسات الأمنية الأخرى، ومدّ أذرعها الاستثمارية من خلال شركة الجنيد، والسيطرة على صادرات الذهب، واحتكار مؤسساته الاقتصادية لتوريد المشتقات البترولية للبلاد، لم يكتفِ بذلك وحسب، بل امتدت سطوته لتطال القطاع المصرفي من خلال استحواذها على بنك الخليج، والمساهمة بنسبة مقدرة في بنك الثروة الحيوانية.
على هذا النحو، استطاع حميدتي من كونه تاجر إبل مغامراً، منطلقاً من طموحة الشخصي المتهور، أخذ يوظف كل الفرص الداخلية والخارجية المتاحة، ويطوّع كافة الظروف مستفيداً من تخبط الدولة وهشاشتها، وسياساتها المضطربة، مستغلاً ضعف النظام السياسي، والاستثمار في حالة التغيير، مع تبني أجندة المحاور الإقليمية، متوجاً كل ذلك بمحاولته الفاشلة بالانقضاض على السلطة وحكم السودان، في السبت 15 أبريل 2023م.