لم يكن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مجرد ميلاد شخص جاء للحياة ليعيش على الأرض بضع سنين، ثم يوافيه أجله فيرحل عن الدنيا، فيذكره أهله بضعة أيام أو أشهر أو حتى سنوات ثم تندثر معالمه، وتُمحى سيرته، وإنما كانت ولادته صلى الله عليه وسلم إيذاناً بميلاد أمة كاملة، بل إيذاناً برحمة تعم البشرية كلها إلى يوم القيامة؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فلم تكن الأمة قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم إلا أشتاتاً مفرقة، لا حضارة لها ولا ريادة ولا تأثير، بل كانت مثالاً للجاهلية العمياء بكل صورها وأشكالها، أمة تتنازع على شيء وعلى لا شيء، كما قال أحدهم: وأحياناً على بكر أخينا إن لم نجد إلا أخانا!
أمة اضمحلت فيها كرامة الإنسان حتى صار رصيد الفرد فيها يُحصى بما يملك من عبيد وإماء، وانتشر فيها التعالي والتكبر فصار الاعتزاز بالنسب والقبيلة شيئاً مقدساً، والتباهي به أصلاً يُدرس، حتى قال أحدهم منتفخاً منتشياً: وإذا بلغ الفطام لنا رضيع خرت له الجبابر ساجدينا! فكان ملخص الوضع فقراً مدقعاً، وجهلاً مطبقاً، وتفرقاً مُوحشاً، وإنسانية مهدرة..
فلما أشرق صباحها بميلاد روحها، خرجت من عمق الجاهلية إلى منصات التوجيه العلمي، ومن التبعية البغيضة إلى الريادة الرشيدة، ومن الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، ومن التنازع المزري إلى الأخوة الراقية، والوحدة الزاهية..
وها هي الأمة اليوم بعد مرور خمسة عشر قرناً من بعثته صلى الله عليه وسلم، تئن من تفرقها، وتتلظى بنيران ضعفها وتنازعها، وأضحت ذَنباً تابعاً لكل من يأخذ بذمامها، حتى خرجت الخنازير تتعالى على الأسود وتعتدي عليها، ويساعدها الحملان والغربان!
فهل انتهى أجلها وحانت ساعتها، أم أن سراً يكمن فيها، يمكن أن تُعيد اكتشافه مرة أخرى، فتنهض من عقالها، وتستيقظ من نومها، وتهب من ثباتها، وتولد مرة أخرى ميلاداً فتياً وتنطلق مرة أخرى انطلاقة جديدة مباركة؟
نعم، إن من أسرار نهضتها وعوامل قوتها أن تدرك أنه ما زال للنبي صلى الله عليه وسلم فيها بركة ميلاد، وفتح لما أُغلق من الأبواب، وجمع لما تفرق من الأحباب، فقد قال الله تعالى له وهو أصدق القائلين: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33).
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان قد فارق الحياة بجسده، فقد بقيت فينا سُنته ومنهجه، وإن حياته بتفاصيلها الدقيقة ما زالت حية بيننا، نستضيء بها سُبل النجاة في ليالي الظُلَم والكُرَب، ونتقي بها غضب الرب، ونستمسك بها في كل ضيق وخطب.
والأمة اليوم على موعد مع ميلاد جديد، وبعث فتيّ شديد، وانطلاقة بركة وخير ورشاد، وما عليها في وسط تلك الآلام التي تكاد تعصف بعقولها فتفقد رشدها، وبإيمانها فتفقد مصدر عزها، إلا أن تستوحي منطلقات الميلاد النبوي، ومعالم الرشاد المحمدي، فتعود لسالف الذكر، لتنهل من عطاءات الفجر الصادق، لتنتقل من المظاهر إلى الحقائق.
وأول تلك الحقائق أن تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُذكر باسمه في القرآن إلا خمس مرات، في الوقت الذي ذُكر فيه اسم كثير من الأنبياء كإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح أكثر من ذلك، بل وذكر فرعون عشرات المرات! وما ذلك إلا لأن القرآن أولى الاهتمام بالأعمال والإنجازات أكثر من الأسماء والمسميات، فقد كان أكثر القرآن خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي أكثر من ألف وخمسمائة مرة يذكر القرآن النبي صلى الله عليه وسلم في ميدان العمل، يخاطبه صلى الله عليه وسلم في كل ميدان، ويوجهه في كل حركة وسكنة بأفصح بيان، يخاطبه في ميدان الدعوة والجهاد والتربية والتزكية والتعليم والأخلاق والتعبد والقدوة والحكم وبناء الأسرة وتحصين المجتمع.. إلخ.
والأمة أحوج ما تكون إلى الانتقال من ميدان الأسماء والمسميات، والمظاهر واللافتات، إلى ميدان العمل والإحسان، والإخلاص والإتقان، والإعداد والجهاد، والحقائق والبصائر، والتمكين والريادة.
فميلاد الأمة يكمن في صدق اعتقادها، واستمساكها بشريعة ربها، وعضها على هدي نبيها بالنواجذ.
ميلاده الأمة الموعود يكمن في أن تجدد مع الله بيعتها، وتوثق بالإسلام رابطتها، وتعلنها بالقول والفعل، إنها بحق أمة الإسلام، وليست أمة الأعلام والألوان والأجناس واللغات والحدود؛ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 72)، ولكي تصل إلى ذاك المقام، ليس عليها إلا أن تتحقق بشرطين رئيسين:
أولاً: أن تعيش بالإسلام، فتكون شريعته مرجعيتها في عظيم أمورها وصغيرها، وأن تعيش بالإسلام، فتدور مع الإسلام حيث دار، إن أرادها في مكة كانت في مكة، وإن أرادها في الحبشة كانت في الحبشة، وإن أرادها في المدينة كانت هنالك، وإن أرادها في الشام كانت مع أولئك، وفي كل موطن هي فيه، شعارها واضح لا مرية فيه؛ (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).
ستولد الأمة من جديد حينما يكون الإسلام مشروعها الإستراتيجي، وحماية ثوابته جهادها العقدي، وحفظ مقدساته واجبها الأبدي، وحمل رايته غاية أجيالها، ونشر كلمته مهمة كبيرها وصغيرها.
الأمة على وعد بميلاد جديد، شريطة إدراكها لموطن خيريتها، والعمل على استعادة هويتها، وخيريتها تكمن في حمل رسالة ربها في قلوبها اعتقاداً جازماً، وفي سلوكها خُلقاً قويماً، وفي تعبدها صراطاً مستقيماً، وفي دعوتها ترغيباً وترهيباً، وإرشاداً وتقويماً؛ قال تعالى: (كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه) (آل عمران: 110).
الأمة على موعد مع ميلاد جديد إذا توثقت رابطة أخوتها الإيمانية، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، فما ينبغي للمؤمنين إلا أن يكونوا إخوة، فلا إيمان بلا أخوّة، ولا أخوّة بلا إيمان، وتلك الأخوة ليست شعارات براقة، أو مظاهر خداعة، بل هي محبة صادقة، وتعاون بناء، ومناصرة فاعلة، ونصيحة خالصة، وقضاء للحوائج، وتفريج للكروب، أخوة ذكر القرآن معالم نجاحها في وصفة لجيل الاصطفاء الأول؛ (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الفتح: 29).
ولكي تنهض الأمة فتتأهب لنهضتها عليها أن تجعل من ذلك التوجيه القرآني منهجية حياة، وأن تجعله دستورها في كل اتجاه، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).
وعليها أن تقاوم تلك الدعوات الهدامة، التي تصدح ليل نهار بإعادتها إلى جاهلية الاعتقاد والسلوك، لتجردها من شرف التبعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى الحداثة والتجديد والتمدن، وما هم من الحداثة في شيء، بل أحداث، وما هم من التجديد في شيء بل أجداث، وما هم من التمدن في شيء بل جاهلية ومسخ وأرجاس!
فمن أراد النهوض فذلك سبيله، ومن أراد الاستقامة فتلك منهجيته، ومن أراد الفوز بسعادة الدارين فهذا طريقه.