أكرم المواهب هلالٌ.. وفيصل!
والشهادة وافرة: أن ” حماس ” قد أتقنت ووفت.
وسبب نجاحها ونيلها الإتقان: أنها لا تعتمد العمل الجماهيري الكمّي، وإنما العمل التربوي الانتقائي والتقاط الصفوة وتعليمها في الخلوات وتفقيهها قبل تدريبها للمصاولات، فتتوافر عناصر: لها مع قوة الشكيمة بُعد نظر، ويكون الالتفاف الجماهيري مظهراً لوجود هؤلاء الجنود الفقهاء.
وفي يوم الحاجة: تتميز معادن الرجال.
وعند المعارك: إنما يَحْمَرّ الباتر إذا هزّه ذو قلبٍ فائر.
والسلاح إذا أتلفه الصدأ: لن ينجد بطيئاً مهما بنفسه رَبأ.
وما الناسُ إلا كالسيوفِ اختلافهم ***** فكلٌ مُحلَّى الجَفنِ، والبعضُ قاطفُ (1)
فكما يُزين الناسُ قُرابَ السيف بذهب وجوهر يلمع، ويتنافسون في ذلك ويتزايدون، لكن الصفائح في الداخل تختلف حداً، وتكون قواطع وعُمياناً: يتجمل الرجال كذلك بالملبس والمنصب واللقب، وبعض القلوب تحت ما ظهر لا عزم لها،ولا رواء فيها، ولا نأمل منها نفعاً ولا حركة، ولا في الخير مساهمة، وإنما هي مثل ثمرة تلفَ لُبّها، وبقيت قشوراً.
لكن السيف جَعَلَتْهُ ” حماس “: أكرم مواهب الله لأهل فلسطين، ولأهل العراق حين غزاهم رعاة البقر، وللمسلمين عموماً، ولأحرار البشر، عبر عدوى الخير، وإملاء في اللاشعور مع كل خبر جهادي ومع صورة كل شهيد يسبق إخوانه إلى الجنان.
وصارَ السيفُ في لغة ” حماس “:
آلة النجدة، وعُدّة العِزّة، وظهير الحزم..
وسَنَد الرجل، وحارس الحريم، ومانع الجار..
ورسولاً إلى المطالب ناهضاً..
وخادماً في المآرب نافذاً (2).
وممارسات ” حماس ” قسمت الناس إلى فريقين في العالم كله. فمن الرجال رموز للعزة، قد تزينوا بالحزم، وتصدوا لمنع العدوان على الأمة، ونهضوا إلى كل مطلب رفيع، وجعلوا المحور الدعوي مركز الانطلاق المنهجي لكل عمل جهادي ينوون إتقانه.
وبجانبهم عاجز وكسول وفوضوي، ورجعي لا يعيش عصره، وجاهل يزهد بالعلم، وجبان يخاف المصاولة، وأناني يقعد على التل يتفرج على المعركة.
واتضح الفُرْقانُ إلى درجة أن كل مخلص اضطر إلى أن يسأل نفسه: إلى أي الفريقين ينتسب؟ ولربما اتهم مخلص نفسَه، لأنه لا يرى للبذل حدوداً غير الحدود العليا التي مارستها ” حماس ” وصارت مثلاً.
وعبر القرون: كان لفتيان الجهاد عشق غير ما الشباب فيه من الهوى، ولهم حَومٌ حول كرام المعاني، وتعتريهم خَلَجات ساميات، وبين معشرهم تناصح، ويقول الواحد لأخيه إذا ذكر حبيبته وحليلته:
أن اصبر:
واسْلُ عن الحِبِّ بمضْــــــلُوعةٍ
فَوَّقَهـــا البـــاري ولم يَعْجَلِ
(وقوس ضليعٌ ومضلوعة: في عُودها عَطَفٌ وتقويم، وقد شاكَلَ سائرُها كَبـِدَها) (3).
والبيت للمُتَنخّل الهذلي، ومجمل معنى نصيحته أنه إن أبعدته الأيام عن حبيبةٍ: فإن له سلوى وعوض بقوس أطال جهدَه باريها في نحتها حتى تناسقت أطرافها مع أوساطها، فجاءت نموذج كمالٍ في جمال، وشارة عِزّة، وآلة ذود، وملهمة مربّية لنفسٍ وقلب، وأسمى ما هنالك أنها هوية انتساب لعُصبة الجهاد الشريف، ولئن مشى الدنيوي بغرور، فإنّ الأخروي ذا القوس المضلوعة المنسابة يتبختر بثقة ويقين، وهو إمام المحبين.
وهذه القوس المضلوعة: صوّرها شاعر البداوة ” رؤبة بن العجاج ” في مثال ثان بِهِلال الإيمان، وقال:
كأنـــها في صــدره تحتَ العُنُق * * * * مثلُ هلالٍ بينَ ليلٍ واُفُق (4)
فانتبه لهذا التصوير الفخم الذي كلّه إيماء إلى رجولة وبطولة.
صارمٌ يقف منتصباً، وقد رسم القوسُ ورمزُ القوة فوق قلبه هلالاً هو رمز الفطرة والإسلام، فتداخل المعنيان وتكاملا، فصاغا مهابة وجلالا.
وتلك طريقة ” حماس ” من يوم جزمت بهويتها الإسلامية، فوضعت كل التراث التجريبي الجهادي منهجاً تربوياً لمجاهديها، بداية بعصر الصحابة الكرام، مروراً بالعصر الأوسط، ومواصلة وتفاعلاً مع أحوال مجاهدي العصر الحاضر.
وهي تروي لفتيانها أول ما تروي: كيف كان شباب الصحابة أهل فروسية وإتقان لها، ففي خبر عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سَبَّقَ بين الخيل).. قال: ( كنتُ فارساً يومئذ، فسبقتُ الناسَ حتى طَفَّفَ بي الفرس مسجد بني زُريق، حتى كاد يساوي المسجد).
(قال أبو عبيد: يعني: إن الفرس وَثَبَ بي حتى كاد يُساوي المسجد) (5)، أي في ارتفاعه، أي كأنه كانت هناك موانع عالية يجب على المتسابق أن يجتازها، كما هي اللعبة اليوم، وأصل الحديث في صحيح البخاري.
فكأنَّ القارئ لأخبار ابن عمر في العبادة ورواية الحديث يظنه ناسكاً لا يُحسن غير الجلوس ونشر العلم، وهو الفارس الأول
ثم تروي مثل خبر أبي سعيد خلف بن محمد اليحصبي السُرتي المالكي المتوفى سنة 319هـ، وقول ولده سعيد:
(كان أبي قد قرأ القرآن على أبي عبد الله محمد بن خيرون المقرئ زماناً طويلاً، وكان ابن خيرون إذا خرج إلى سوسة يرابط: خرج أبو سعيد في إثره.. وكان له صوتٌ حسن بالقرآن… قال ولده: لقد كنتُ أخرج معه للرباط فينزل بنا كل ليلة في شهر رمضان ويجتمع خلفه جماعة، فاسمع البكاء والشهيق من كل مكان.. وكان يُحسن الفروسية، مولعاً بشراء الخيل، ويخرج إلى الرباط بها للحرس على المسلمين.. وكان ربما خرج من سوسة هو وأبو جعفر أحمد بن سعدون الأربسي، وأبو بكر بن أبي عقبة، فيقفوا صفاً واحداً، كأن العدوّ بين أيديهم، ويُجرون خيلهم في ذلك الموضع حتى تطلع الشمس) (6).
وأما التجربة المعاصرة فإنها لا ترويها، لكنها تعانيها، وتكون أصل ذاتها، وانفعلت بها مدة ثم أصبحت فاعلة صائغة لها، وهي تجربة صيرورة ” المجتمع الفلسطيني المهتم بالقضية الفلسطينية ” بيئة جيدة الأوصاف لتلقين وتعليم فن الجهاد لكل العالم الإسلامي، بل والفن الثوري لكل العالم، ومهارات القيادة وأساليب التعامل مع تعقيدات العلاقات الدولية وعنفوان العولمة.
وأصل خبر هذه الـمُـكنة الحماسَوية التي آلت إليها من مجموع التجربة الفلسطينية أن الظاهرة القيادية في تحريك الحياة لا تكون من قائد فرد فقط، أو من تنظيم وحزب فقط، بل تكون أيضاً من مجتمع له خصائص ممنوحة من نمط معيشته هو داخل المجتمع الكبير، وأوضح مثل لذلك “المجتمع القرشي” ودوره القيادي بالنسبة للمجتمع العربي الكبير، بما أتاحت الحياة التجارية لقريش من ذلك، وأتاحه حج العرب إلى مكة.
ويشرح أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذلك ويسوّغ في حديثه للأنصار يوم السقيفة سبب تصدّيه للخلافة ويقول: (إنما جـِـيْـبَـت العربُ عنا كما جِـيْـبَـت الرّحى عن قُطبها، فُكنّا وسطاً، وكانت العرب حوالينا كالرّحى) (7).
والجَوْبُ: قطعك الشيء، كما يُجابُ الجيب، جـِـيْـبَـت العربُ أي خُرِقت العرب عنا فكانت قريش القطب الذي تدور عليه العرب، وهي المنزلة القيادية التي نشأت بتدرج وعلى مدى طويل من غير اصطناع وتكلف.
وأهل الحواضر عموماً يكونون أوعى من أهل البداوة وأشد مراساً للسياسة، ثم أهل العواصم أكثر انفعالاً بها من أهل الأطراف، وأي مدينة أو إقليم يكثر فيه الأدب وتداول العلم والبحث الفكري يصير بعد دهر مؤهلاً لتأثير قيادي فيما حوله.
ولأن هذه الظاهرة موجودة: فإن التوجه الدعوي مال ذاتياً لأن يتقصد السيطرة من خلالها على بعض الحركة الحيوية وأن يكتشف الفرص المتاحة من حوله لينميها.
والكتلة الفلسطينية الجهادية الناصرة للقضية الفلسطينية وصلت إلى هذه الدرجة من الامتلاء بالزخم الكامل وإمكانية سريان طرائقها وخططها وقناعاتها وتجاربها إلى كل قضية أخرى فيها ضُهدة وظلم، وكان أوضح ذلك تأثيرها المباشر والحاسم في “القضية العراقية ” وسرعة الاستجابة العراقية لنداء الجهاد، فتكاملت القضيتان، وتداخلتا، واتحد مصيرهما، وذلك أوفى نجاح “حماس”.
______________
(1) (2) البصائر 3/ 169 ، 5 / 132
(3) (4) (5) لسان العرب 2 / 543 / 337 / 598
(6) أعيان علماء ليبيا / 64 لناصر الشريف، وأحال على كتاب رياض النفوس.
(7) لسان العرب 1 / 526
رسالة كتبها الشيخ محمد أحمد الراشد على أثر فوز «حماس» في الانتخابات بفلسطين.
المصدر: «شبكة فلسطين للحوار».