إن أتباع المدرسة الاستشراقية «الإسرائيلية» كثيراً ما يقعون في فخ الكذب والادعاءات التي لا تقوم على أساس، وكأنهم في ذلك يراهنون على سذاجة القارئ وعدم تمكنه من البحث في الكتب والمصادر الإسلامية التي يتعمد هؤلاء حشد أسماء كثيرة منها تصل إلى العشرات –وأحياناً المئات– بحيث يظن القارئ أن الباحث أو المؤلف تمكن من قراءة واستمزاج كافة تلك المصادر العميقة الكبيرة والتبحر فيها، بينما هو في الحقيقة لا يعدو كونه انتقى من بعضها نصوصاً واقتطعها من سياقها تماماً بما يفيد فكرته التي يريد تأكيدها، ولذلك نجد كثيراً في هذه البحوث عبارات التأكيد من قبيل «ما من شك»، و«بالتأكيد»، و«لا بد»!
وهذا الأمر يسمح للمؤلف أن يمضي بعد ذلك لاختلاق الأحداث وادعائها دون أي مصدر، أو اعتماداً على مصادر بعيدةٍ ومشكوك في صحتها أصلاً، ومن أهم الأمثلة على ذلك ادعاء وجود دورٍ كبيرٍ لليهود في الفتح الإسلامي الأول (الفتح العمري) للقدس، حيث يدعي شلومو دوف غويتين، ودانييل ساهاس، مثلاً، أن المسلمين استعانوا باليهود في أثناء حملتهم على القدس، ويدعي هؤلاء أن اليهود كانوا يدلون المسلمين على الطرق وأنهم ساعدوا في توجيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى منطقة المسجد الأقصى المبارك!
وهذا الادعاء مردودٌ جملةً وتفصيلاً، إذ إن المعروف أن العرب قبل الإسلام كانوا يترددون كثيراً على هذه المنطقة، بل إن بعضهم كان يزور القدس في ذلك الوقت –على الأرجح من باب السياحة لأنها لم تكن مقصداً تجارياً– مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم صباح ليلة الإسراء والمعراج عن المسجد الأقصى المبارك، في رواية ابن عبدالبر: «فإني قد أتيته»، فلما وصفه له النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: «صدقت، أشهد أنك رسول الله»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنت يا أبا بكر الصديقُ».
أما اليهود، فإنهم كانوا ممنوعين على فترات طويلةٍ من دخول القدس منذ عهد الإمبراطور هدريان عام 135م كما تذكر الروايات التاريخية الرومانية واليهودية، ولم يذكر تاريخياً وجود لهم في القدس إلا عدة سنوات مع احتلال الفرس للقدس عام 614م، فهل يعقل أن يجعل العرب المسلمون الذين يزورون القدس دائماً من اليهود أدلاء لهم وهم الذين لا يعرفون المنطقة وانقطعوا عنها مئات السنين؟!
ولعل أهم الروايات التي يستند إليها أصحاب هذه المدرسة روايات استشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار عن موضع بناء المصلى داخل المسجد الأقصى، حيث يعتبر شلومو دوف غويتين أن هذه المسألة تؤكد أن اليهود كان لهم يد في «تطهير مكان الهيكل» وتحويله إلى مصلى إسلامي!
وهذا الادعاء يفنده فعلياً رفض عمر لاقتراح كعب بناء المصلى خلف الصخرة، والواقع أن كعب في ذلك الوقت كان مسلماً ولم يكن يهودياً كما يصر غويتين على نعته، فاستشارة عمر له لا تشير إلى تأثيرٍ صغير أو كبير له في هذا الأمر، وإنما يمكن أن يفهم النص بعكس ذلك تماماً، بحيث يمكن أن يفهم سؤال عمر لكعب على أنه اختبار لبيان رؤية كعب الأحبار لهذه المنطقة، وهذا ما يؤكده اعتراض عمر على رأيه واعتبار أنه «خالطته اليهودية».
حتى إن إحدى روايات الطبري تقول: إن عمر انتبه إلى أن كعباً خلع نعليه عند دخوله المنطقة، فاعتبر أن ذلك من التأثر باليهودية، ولذلك أراد اختباره أمام الناس بهذا الاستفسار وقال له: «لقد رأيتك حين خلعت نعليك»، فالمحصلة أن عمر لم يكن سطحياً كما يحاول غويتين أن يظهره، وإنما بلغ من حدة ذكائه أنه كشف تأثر كعب الأحبار بالديانة اليهودية في ذلك الوقت المبكر من إعلان إسلامه كي لا يأخذ منه المسلمون ما يمكن أن يكون متأثراً بالرؤية اليهودية للمكان أو الدين.