وتستمر الحيرة المزمنة بين الشوق إلى الوطن والرغبة في العودة إليه والاستقرار فيه، وبين ما يفرضه الأمر الواقع من وجوب الاستمرار في الغربة، حيث الحياة الأفضل من جميع النواحي، ولا سيما الاستقرار المادي، تمر السنوات وتبقى الحيرة، فلم يحدث ذلك الاستقرار النفسي والوجداني في الغربة، ولم يعد المغترب إلى وطنه.
كانت هذه المعادلة محسومة منذ اليوم الأول بالنسبة للمسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، فقد شرعوا مباشرة في التفاعل مع مجتمعهم الجديد، وحاولوا بكل الطرق التأثير فيه، وذلك على الرغم من أنه لم يكن لديهم علم متى ستكون العودة إلى أرض الوطن، عرفوا أن لديهم رسالة وواقعاً يجب أن يتعايشوا معه بعيداً عن وطنهم الأم الذي كان يحتاج بشدة إلى أمثال هذه النماذج، ولا سيما أن الدعوة الإسلامية دخلت في مراحل حاسمة ومعارك فاصلة.
فغزوات «بدر» و«أُحد» و«الخندق» وقعت بينما بقي المسلمون في الحبشة يمارسون دورهم، وكان عدد المهاجرين في غزوة «بدر» يتجاوز الثمانين بقليل، وهو تقريبًا نفس عدد المهاجرين إلى الحبشة، بقي المسلمون هناك لفترة تتجاوز 15 عاماً، وحين اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن الدولة الإسلامية في المدينة المنورة قد اشتد عودها وأصبحت في مأمن من خطر الأعداء، عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة ليشاركوا في بناء تلك الدولة والعمل على توسعها.
ولكن السؤال المهم الذي يتبادر إلى الذهن الآن: ما تلك الأدوار المهمة التي من أجلها سمح الرسول صلى الله عليه وسلم ببقاء هذا العدد من خيرة الصحابة في أرض الحبشة؟ وهل تحققت تلك الأهداف التي رسمها المسلمون لحياتهم في المهجر؟
صحيح أن الحبشة لم تتحول كلياً إلى الإسلام، ولم يتمكن الإسلام من فرض عقيدته وشرائعه كما حدث في الجزيرة العربية، وذلك قد يرجع إلى التأثير القوي للكنيسة الأرثوذكسية وسطوتها الدينية، للدرجة التي جعلت النجاشي وهو على رأس النظام الحاكم يخفي إسلامه عن شعبه والمقربين منه، ولم يجد من يصلي عليه في الحبشة بعد وفاته، ولكن من المؤكد أن هناك العديد من النجاحات المهمة للدعوة الإسلامية في الحبشة، تجلت ذروتها في إسلام النجاشي ثم الدائرة المحيطة به، حيث أسلمت جاريته وتدعى أبرهة، وهي التي طلبت من أم حبيبة أن تقرئ السلام للرسول صلى الله عليه وسلم وتخبره أنها قد اتبعت دينه.
كذلك أسلم العديد من أبناء النجاشي وأولهم ابنه أرمى الذي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ستين من خيرة أصحابه الذين التحقوا بالإسلام، ولكن تشاء الأقدار كما يحكيها صاحب كتاب «أسد الغابة» أن تغرق بهم السفينة التي كانت تقلهم في البحر ويموتوا جميعاً.
ثم هاجر أبو نيزر بن النجاشي لاحقاً إلى المدينة المنورة وحسن إسلامه وعاش فيها ما تبقى من حياته.
كما امتد تأثير المسلمين للدائرة الأوسع من أصحاب النجاشي الذين قالوا له: ائذن فلنأتِ هذا النبي الذي كنا نجده في الكتاب، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه غزوة «أُحد»، ثم أسلم من علماء النصارى 40 رجلاً قدموا مع جعفر بن أبي طالب إلى المدينة.
لماذا لم يستغل النجاشي سطوته الملكية ليأمر الجميع باتباع الدين الجديد؟ لقد أخفى النجاشي إسلامه عن عامة الشعب، وبقي يقود نظاماً يحكم بغير شرع الله، واعتبر أن المصلحة في الانتشار البطيء للإسلام أولى من الدخول في مواجهة مع الزعماء المحليين وقادة الكنيسة، وهو ما من شأنه أن يقلب الموازين ويؤدي إلى ضياع ملكه، وهو أمر لم ينكره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
بل حدث ما هو أبعد من ذلك، عندما عرض النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من الحبشة ويستقر في المدينة، وأرسل له: «إن شئت أن آتيك بنفسي فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقوله حق»، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم استند إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، واعتبر أن استمراره في ملكه ووجود المسلمين هناك كمخزون إستراتيجي للدعوة من الأولويات التي ينبغي الحفاظ عليها.
فهم النجاشي أهمية حفاظه على ملكه حتى لو قدم بعض التنازلات السياسية، وكان من الدهاء أن أحبط محاولة الانقلاب الثانية على ملكه وهي الحكاية التي وردت في كتب السيرة حين اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سُفناً، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال النجاشي –ووضع يده على صدره على قبائه– هو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا شيئاً، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه.
قدم النجاشي للجميع أحد الدروس المهمة في المرونة السياسية والدهاء، قد يتفق البعض أو يختلف مع ذلك، ولكن تبقى التجربة وخصوصيتها في العمل السياسي في المهجر من الإضاءات المهمة على طريق كل من يهتم بدراسة تلك الحالة.
يجب التعمق في تجربة المسلمين في الحبشة، والوقوف عند كل الدروس والعبر فيها، فمن خلال ذلك يمكن لنا أن نحقق المزيد من التعايش مع مجتمعاتنا في الغربة، كما أن فيها الكثير مما يساعدنا لكي نتغلب على الصعاب والتحديات والفتن التي يواجهها كل مغترب.