يظن البعض أنه في عالم الرقمية والذكاء الاصطناعي، فإن دور المنبر تراجع، وأن الخطابة والوعظ الإرشاد تضاءلت مكانتها كأدوات في التأثير في الناس، ولكن الحقيقة أن المنبر ما زالت له سلطته وسطوته وقدرته التأثيرية، ولعل من أهم المجالات التي ما زال للمنبر مكانه البارز فيها، هي قدرته على مخاطبة الناس، والتسلل لوجدانهم، ومخاطبة ذلك الفراغ المتزايد مع طغيان المادية والفردية.
والحقيقة أن مفهوم المنبر-في الرؤية الإسلامية- متسع، فهو ليس ذلك التشكيل الخشبي الذي يصعد عليه الخطيب ليعظ الناس ويرشدهم، ولكن المنبر هو كل مكان يستطيع المصلح والواعظ من خلال مخاطبة الناس والتأثير فيهم، وهذا يجعل من الكتاب وموقع التواصل الاجتماعي والفضائية منبراً.
ويناقش هذا المقال مسألة الفراغ الوجودي الذي يعاني منه الإنسان المعاصر، وبات يؤرق حياته، ويدفعه إلى المعاناة بشتى أنواعها، والفراغ من القضايا المعاصرة المعقدة، فإذا كان البعض يهرب منه، ويشكون من نهشه لذاته، فإن آخرين يشكون من ندرته، فلا تمنحهم الحياة الوقت الكافي ليتعرفوا على ذواتهم، وإذا كان هناك فائض في الزمن عند البعض يبددونه في التفاهات، فهناك آخرون يعيشون في ازدحام من الضغوط والواجبات يجعل الفراغ أعظم أحلامهم، ومع ذلك فالفراغ هو المساحة التي تتنفس فيه المواهب والإبداعات، فإذا كانت الحاجة هي أم الاختراع، رغم أن شواهد التاريخ تدحض هذا الادعاء، فإن الفراغ هو المساحة التي نمت فيها المواهب وأبدعت فيها الحضارات عمرانها وابتكاراتها.
الفراغ الوجودي
الفراغ حالة إنسانية أصابت غالبية البشر، لفترات متفاوتة، لكن هناك من لازمه الفراغ كحالة مزمنة، وهو خليط من المشاعر المتنوعة من الملل والاغتراب وعدم الرضا وغياب السعادة وفقدان المعنى والغاية وضبابية الهدف، وغياب التحدي والحافز، لكن أعظم أنواع الفراغ معاناة هو الفراغ الوجودي، وهو حالة من خواء النفس من الإيمان والاعتقاد المتعالي، وهو حالة مزمنة، تشبه الذئب الذي يعوي منفرداً في الصحراء الشاسعة، لا يجد من يجيبه، وهذا الشخص ليس له من مهرب إلا الانغماس في الملذات والشهوات أو الجريمة أو الانحرافات أو حتى التخلص من الحياة.
الإنسان الذي أنتجته الحداثة، كان ضعيف الصلة بالسماء والإيمان، ولم تنجح الحداثة في ملء هذا الفراغ الروحي، إلا من خلال إطلاق العنان لكل ما يحقق النسيان، لكن هذا الفراغ جذب المخاوف، بعدما فقدت النفس الطمأنينة التي كان ينشئها الإيمان، لذا عزا بعض المفكرين الغربيين ذلك الفراغ إلى عدم قدرة الحداثة على تقديم الإجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى، فهذا الإنسان الذي يعاني من الفراغ الوجودي المزمن، لا يريد الاعتراف بحاجته إلى الاعتقاد، ولذلك يرفض التوقف، ويمضي مسرعاً رافضاً النظر لذاته الفارغة.
يصر البعض على انتقاد الحداثة في آثارها المادية، مثل الاستهلاكية المفرطة، أو استنزاف الموارد، ويتغاضى عن تأثير الحداثة في إنشاء الفراغ الوجودي في النفس البشرية، وحسب المفكر سيد حسين نصر، فإن الحداثة قادت إلى الفراغ الروحي، عقب انفصالها عن «المتعالي»، فتكريس المجتمع الحديث لنفسه من أجل العلم والتكنولوجيا فقط، خلق فراغاً روحياً وقلقاً وجودياً.
يقود الفراغ إلى زيادة قيمة ومكانة اللذة في حياة الإنسان، وربما استطاعت الطفرات التكنولوجية والاقتصادية أن تخلق إشباعاً مؤقتاً لهذه اللذات، لكن بعدما زالت تلك السكرة وحدثت الإفاقة، انتابت الإنسان المعاصر الكثير من المخاوف والقلق الوجودي، فمع كل تقدم مادي وعلمي وتكنولوجي يزداد احتكاك الإنسان بالأسئلة الوجودية الكبرى حول الخالق سبحانه وتعالى، والمصير، والموت، وعلى قدر الفراغ الروحي يكون ضجيج تلك الأسئلة في النفس.
الفراغ الروحي، قد يكون متوارياً وراء الانشغالات الحياتية، أو الانغماس الكبير في الترف والملذات، ولكن يظهر فجأة وبكل عنفوان مع تعرض الشخص لأزمة كبرى كموت أحد الأشخاص القريبين منه أو الإصابة بمرض، في كتابها «شفاء الفراغ: دليل للرفاهية العاطفية والروحية»، تقدم الكاتبة الأمريكية المسلمة ياسمين مجاهد مساهمة لعلاج هذا الفراغ الوجودي المزمن، على أرضية إسلامية، وهي متخصصة في علم النفس وعلوم الاتصال، والكتاب يقدم مداواة للنفس، فأبواب السعادة تُفتح من الداخل في أغلب الأحيان.
والسعادة منشؤها النفس أولاً، فإذا كانت النفس ممتلئة بقوة الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، فإن النفس ستفيض على الوجود سعادة وبهجة، ولا يعني ذلك أن تكون النفس بلا عيوب، ولكن قد يتجاور الخطأ والعيب بجانب الصواب والإلهام، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس)، هذه الرؤية تمنح الإنسان المؤمن القدرة للتعامل مع آلامه، وأن يمنع تلك الآلام أن تدمر ذاته أو الآخرين، وتضفي سكينة على النفس والوجود.
تشير مجاهد إلى أن شعور الإنسان بالألم، في ظل فراغه الروحي، سيجد نفسه محاطاً بكمّ كبير من المهدئات المخيفة من الجنس والمخدرات والخمر والمادية والاستهلاكية، لكن حقيقة هذه المهدئات أنها تمثل حالة هروب، فقد يهرب الإنسان من هذا الفراغ إلى الاختباء في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تمنحه شعوراً مؤقتاً بالامتلاء والسعادة.
تدعو مجاهد ألا نخجل من إنسانيتنا، بل يجب علينا السعي لمحاولة فهم أعمق لأنفسنا والوجود من خلال الإيمان بالله تعالى، وأن ندرك أن الجِراح قد تكون وسائل للتعلم والمعرفة، وأن الشفاء منها يجعل الإنسان أقوى، وربما يتوافق كلامها مع مقولة جلال الدين الرومي: «إن الجرح هو النافذة التي يدخل منها النور إليك»، فالحياة ورحلتنا فيها ليست هي الغاية أو النهاية، ولكن لا بد أن يرنو الإنسان ببصره بعيداً ليبصر الآخرة، فرؤية الآخرة واستحضارها في النفس تكافح الفراغ الروحي وأزماته.
خطورة الفراغ
الفراغ قد يكون من مسببات اضطرابات الشخصية، وقد يدفع إلى إيذاء الإنسان لنفسه من خلال الإدمان أو الجريمة أو الانتحار، فالفراغ قد يكون مرتبطاً بمشاعر الخسارة والفقد والغياب واليأس، وينتج عن ذلك أزمات في الصحة النفسية والعقلية والجسدية.
هناك ارتباط بين الفراغ والصحة والجريمة والانحرافات السلوكية، خاصة لدى الشباب، فقد يلجأ البعض إلى الجريمة لملء فراغه الروحي وليس لأي غرض آخر، وربما هذا ما أشار إليه كتاب صدر قبل عقدين بعنوان «الأولاد الضائعون: لماذا يتحول أبناؤنا إلى العنف؟» للبروفيسور وعالم النفس الأمريكي جيمس جاربارينو.
حيث يؤكد جاربارينو أن أحد أهم مسببات جنوح المراهقين والصغار نحو العنف هو حالة الفراغ والانفصال بين هؤلاء والنماذج والشخصيات الإيجابية، فلا يجد هؤلاء الصغار إلا العنف، الذي يداعب خيالهم من خلال الأفلام وثقافة الأسلحة النارية، التي تقدم نموذج الرجل القاتل العنيف كنموذج للاقتداء، وأن السبيل لمواجهة تلك الحالة القلقة الخطرة هو تغذية المعنى في نفوس هؤلاء الصغار، وغرس القيم الأخلاقية الدافعة للانخراط الإيجابي في المجتمع.
ويؤكد جاربارينو أن الأزمة الروحية جوهر مشكلة العنف بين الشباب، فالبشر ليسوا مجرد حيوانات ذات أدمغة معقدة؛ بل كائنات روحية لها خبرة مادية، وهذا الإدراك يساهم في فهم جنوح هؤلاء الصبية نحو العنف، فهم غالباً ما يشعرون باللامعنى.
وخلصت دراسة للباحث البريطاني ديفيد كلونسكي بين طلاب الجامعات أن 67% منهم شعروا بالفراغ قبل الانخراط في إيذاء النفس، وأن الفراغ ذو ارتباط وثيق بالشعور باليأس والوحدة والعزلة، وهو مؤشر قوي للاكتئاب والأفكار الانتحارية.
وأشارت دراسة أخرى إلى أن الفراغ واضطرابات الهوية مرتبطان بالسلوكيات المدمرة، ومقدمة للانخراط في اضطرابات الشخصية الحدية، لكن هناك مشكلة في علاج الفراغ، وهي أن يلجأ الشخص لبناء علاقات غير سليمة وغير نافعة من أجل التخلص من الفراغ، وهو ما قد يفتح باباً من الأخطاء والشرور.
أما الرؤية الإسلامية للفراغ، فتراه نعمة يجب ألا تُبدد ولا تُهدر، وفي الحديث الوارد في صحيح البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ»، فالكثير من الناس يظن أن الفراغ جبل لا ينفذ، فيستهين به، ولا يستثمر هذا الفراغ فيما ينفع نفسه والآخرين، وفيما يصلح الدنيا والآخرة.
أما الشباب فيتجمع فيهم الفراغ والصحة، ويغفل الكثير من الشباب عن الاستفادة منهما في بناء الذات والولوج للمستقبل بخطوات واثقة قوية، لذلك كان الحديث عن تبديد فترة الشباب له سؤال خاص في الآخرة، ففي الحديث الذي رواه الترمذي: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم»، لذلك كان الصحابي عبدالله بن مسعود يرفض الفراغ غير المثمر، ويقول: «إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً فارغًا، لا في عمل دنيا، ولا في عمل آخرة».