الوعي الجمعي كما عرفه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858 – 1917م) هو «المعتقدات والمواقف والأخلاق المشتركة التي تعمل كقوة للتوحد داخل المجتمع»، ويعبر عنه أيضاً بالضمير الجمعي.
ويتشكل الوعي الجمعي من خلال إدراك القضايا المختلفة التي قد يواجهها المجتمع كل يوم عبر وسائل التأثير المختلفة التي تساهم في تحقيق إدراك القضايا التي تهم أفراد المجتمع.
ويعتبر الوعي الجمعي إحدى الركائز الأساسية للتطور الاجتماعي والتقدم والنهضة؛ لأن الأفكار التي تراود أذهان الناس قد تساعد في تنمية المجتمع واستقراره، وإزالة العقبات التي تقف أمام عجلة التنمية، وقد يؤدي انعدامه إلى تفشي المشكلات المختلفة في المجتمع ومن ثم انهياره.
وقد شكلت «طوفان الأقصى»، وقد اكتملت عاماً من عمرها، حالة رافعة نحو تشكيل وعي جمعي متقدم في إدراك حقائق القضية الفلسطينية على مختلف الصعد المحلية والعالمية، وصححت العديد من المفاهيم الخاطئة حول القضية الفلسطينية، اجتهد الاحتلال وداعموه على ترويجها وتسويقها بالترغيب حيناً وبالترهيب أحياناً كثيرة؛ فتهاوت السردية اليهودية الصهيونية لحساب السردية الفلسطينية الإسلامية، حتى أصبحت كثير من الشعوب الغربية من أشد مناصري السردية الفلسطينية، بعد أن كان ذلك مقتصراً على شرائح واسعة من شعوب الأمة الإسلامية، وهذا تطور كبير لصالح القضية الفلسطينية.
ولعل أبرز معالم هذا التطور في وعي وإدراك المجتمعات الغربية للقضية الفلسطينية يتمثل في:
– تنامي حركة مقاطعة البضائع الصهيونية في المجتمعات الغربية، واعتبار من يتسوق منها مشاركاً في عملية الإبادة الممنهجة التي تمارسها سلطات الاحتلال، ورأينا جرأة غير عادية من بعض الناشطين الغربيين ونزولهم إلى أماكن التسوق ولصق ملصقات على المنتجات المراد مقاطعتها بطرق إبداعية مثيرة للإعجاب.
– ملاحقة السياسيين المؤيدين لجرائم الاحتلال وكشف نفاقهم أمام وسائل الإعلام المختلفة، ومحاصرتهم في الفعاليات التي يشاركون فيها، سواء في المحافل العلمية أو السياسية، وقد قام الناشطون بحراك لافت كشف تواطؤ الحكومات الغربية مع سلطات الاحتلال، ومشاركتها المباشرة في حرب الإبادة البشعة التي تمارس بحق الفلسطينيين.
– المسيرات الحاشدة والوقفات والاعتصامات المناصرة لفلسطين في كبرى المدن الغربية خاصة في أوروبا وأمريكا، ومشاركة أطياف واسعة من شرائح المجتمعات الغربية من طلاب أعرق الجامعات وكثير من الأكاديميين والسياسيين، بل ومن عسكريين سابقين، وغيرهم.
وتميز هذا الحراك برفع الشعارات الصريحة بتجريم حرب الإبادة وداعميها واعتبار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر حقاً مشروعاً للفلسطينيين يجب دعمه، فاشتهر شعار «From river to the sea.. Palestine will be free».
– المشاركة في حملات كسر الحصار عن غزة وجمع التبرعات لصالح الفلسطينيين ومشاركة كثير من الأطباء الغربيين في وفود طبية لمعالجة جرحى الحرب في القطاع.
وبعد، فهذه بعض التطورات في مجال القضية الفلسطينية التي سببتها «طوفان الأقصى» في العالم غير الإسلامي عامة، وفي المجتمعات الغربية خاصة.
أما في العالم الإسلامي، فقد كان لـ«طوفان الأقصى» أعظم الأثر في تنامي الوعي لدى الجماهير التي لو فتح لها المجال لشاركت في قتال العدو الصهيوني بالنفس والمال معاً.
وقد شهدت المنطقة العربية والإسلامية حراكاً كبيراً لنصرة غزة وفلسطين عمومًا تمثل في المشاركة بالجهاد بالمال، وقد نشطت الجمعيات الخيرية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وتسابقت في تبني مشاريع الإسناد والنصرة لأهل غزة الصابرة، على الرغم من وجود حملات إعلامية مضادة تشوه الجهاد والمجاهدين في فلسطين شارك فيها –مع الأسف- بعض المشايخ ممن يحسبون على أهل العلم سواء بغفلة منهم وعدم إدراك للواقع أو بمشاركة مباشرة على بيّنة وعلم واتباع هوى.
ولعل من الآثار المباشرة لـ«طوفان الأقصى» فوز الإسلاميين بمقاعد كثيرة في الانتخابات البرلمانية في الأردن نتيجة لتأييد الشارع الأردني الجارف للحق الفلسطيني، وأنه لا سبيل لانتزاع هذا الحق إلا بتبني الجهاد في سبيل الله، تماماً كما فعل المجاهدون في فلسطين، وما احتفاء الأردنيين بعملية ماهر الجازي البطولية إلا تأكيد على ذلك.
وعلى صعيد آخر، نستطيع القول: إن قطار التطبيع الذي كان يسير مسرعاً نحو محطات جديدة في العالم العربي والإسلامي قد توقف ولو مؤقتاً؛ ذلك أن «طوفان الأقصى» كشفت عن الوجه الحقيقي للعدو الصهيوني، فظهرت بشاعته وبانت حقيقته، خاصة بعدما تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أطماعه لا تتوقف عند فلسطين، بل إنها تمتد لتشمل ما يسمى «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات، وقد جاهر نتنياهو بذلك تحت قبة الأمم المتحدة وأظهر أطماعه التوسعية علانية.
والآن امتدت الحرب العدوانية لتشمل مناطق جديدة، فدخل لبنان بشكل واسع، وقد يكون من بعده سورية والأردن، فما دام الكيان الصهيوني لا يجد من يردعه ويوقف جرائمه فإنه سيستمر في عدوانه وتحقيق أطماعه، وقد باتت الشعوب العربية والإسلامية مدركة لهذه الحقيقة أكثر من أي وقت مضى، والوعي أول خطوات التحرر والتحرير.
لقد أحيت «طوفان الأقصى» في الأمة إمكانية النصر على الكيان الصهيوني، بل وسهولته إن توفرت الإرادة، بعدما كان اليأس والإحباط يلف شعوب الأمة الإسلامية، وأصبحت المقاومة الفلسطينية ملهمة لشعوب الأمة، وهذا الوعي في غاية الأهمية، فإنه سينقل الأمة من موضع المفعول به المتلقي للضربات إلى موضع الفاعل القادر على المبادرة ورد العدوان وتحرير الأوطان.
وإن على القوى المؤثرة في الأمة الإسلامية؛ رسمية وشعبية، أن تتلقف هذه الفرصة ولا تضيعها، لتكون منطلقاً لصناعة طوفان الأمة الذي متى انطلق فلا توقف له إلا في بيت المقدس محرراً بإذن الله، وليعلم كل واحد منا أين موقعه في صناعة هذا الطوفان الهادر.