أمها: أم خالد بنت خالد بن يعيش الأنصارية.
ما نتمهل أمام سيرتها إلَّا ونلمح مزايا وتفردًا، ولا غرو(1) أنها ابنة حارثة بن النعمان، ولا ريب أنها اكتسبت تفردها من تفرد أبيها رضي الله عنه، ذلكم الرجل الذي استمالت قلبه على الفور كلمات الداعية المكيّ مصعب بن عمير رضي الله عنه فأعلن إسلامه لله عز وجل، وعاد إلى داره يدعو أسرته، فأسلمت جميعها من يومها تتقدمهم زهرة بني النجار اليانعة أم هشام بنت حارثة، وآل الجميع على أنفسهم أن يفدوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمهج والأرواح، وما أن حلَّ صلى الله عليه وسلم بدار مهاجره(2)، حتى كان حارثة بن النعمان وابنته أم هشام في طليعة مستقبليه، واستطار(3) قلب حارثة فرحاً لما نزل المهاجر العظيم صلى الله عليه وسلم بدار أبي أيوب الأنصاري لأن حارثة كان من بني النجار، وكان منزله صلى الله عليه وسلم بدار أبي أيوب قريباً من داره.
وجعل رضي الله عنه يتحوَّل عن منازله للنبي صلى الله عليه وسلم كلما أحدث أهلاً(4) حتى استحى منه صلى الله عليه وسلم، ولما تزوج عليّ بن أبي طالب من الزهراء رضي الله عنهما كانت دارهما بعيدة عن بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم ومسجده، ولم يطق صلى الله عليه وسلم على بعدهما صبرًا، وتمنى لو يبدلهما بدارهما دارًا قريبة من غير دور حارثة الذي يستحي صلى الله عليه وسلم منه، ونما الخبر إلى حارثة، فانطلق رضي الله عنه صوب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: بلغني يا رسول الله أنك تريد أن تحوِّل فاطمة إلى جوارك، وهذه منازلي أقرب بيوت بني النجار إليك، يا رسول الله، والله إن الذي تأخذ أحبَّ إليَّ من الذي تدع، فقال صلى الله عليه وسلم: «صدقت بارك الله فيك»(5).
وفي أريحية لم يشهدها التاريخ إلَّا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تحوَّل حارثة عن داره، وتحوَّلت الزهراء إلى جوار أبيها صلى الله عليه وسلم، ترى أين نجد هذا الإيثار النبيل؟!
وفي هذه البيئة الكريمة، وهذا المنبت الطيب تفتح صِبَـا أم هشام بنت حارثة، وكان للجيرة الشريفة التي فاض منها نور النبوة أثرها في نفسها، فهي تسبح في لألائها، وتغترف من بركاتها، ترى النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب، وتتعامل مع أزواجه عن كثب، تقول رضي الله عنها: لقد كان تنورنا(6) وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة.
فكان مما خلع عليها تفردًا عن ولائد(7) بيئتها قُـرْبها من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفتها بأحوالهم.
يتخبط الكثيرون في الحياة دون بذل الجهد في إثراء دينهم وثقافتهم رغم الأسباب التي تحيط بهم من هنا وهناك، وتفضي بهم -لو أجادوا استغلالها- إلى هذا الإثراء الديني، والثقافي ولكنهم ليسوا طلاب نفوس كبيرة، وإنَّما طلاب ما هو غيرها من الشهوات، وكانت أم هشام نفسًا كبيرة، وجميلة لكأن جيرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت لها مطلبًـا ذهنيًـا، وضروريًـا فغنمتها بوعي وبراعة، فإذا خطب صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، شرعت أذناها مدققة تأخذ آي الله من فمه الشريف غضَّـة طرية كما نزلت عليه، فلم يكن بينها وبين الله عز وجل إلَّا جبريل عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أخذت بعض القرآن عنه صلى الله عليه وسلم، قالت رضي الله عنها: ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (ق: 1) إلَّا من لسان النبي صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس(8).
فكان من المناسب جدًا لشخصية ذات نفس كبيرة كأم هشام أن تفعل ما فعلت حتى أكسبت ذهنها ثقافة شرعية وضرورية، وفي شرح الحديث قال الإمام مسلم: قال العلماء: وسبب اختياره صلى الله عليه وسلم (ق) أنها مشتملة على البعث والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة، وفيه دليل للقراءة في الخطبة كما سبق واستحباب قراءة (ق) أو بعضها في كل خطبة.
ودائماً ما تسرع الأوقات السعيدة في مضيها، وتخفُّ أيام السراء في سيرها، فما لبثت السنون أن توالت، وفي شهر ذي القعدة من السنة السادسة من هجرة الحبيب أعلن النبي صلى الله عليه وسلم خروجه إلى مكة معتمراً، واستنفر صلى الله عليه وسلم الناس من حوله، فخرج معه ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «يوم الحديبية» كنَّـا خمس عشرة مائة(9).
وعقدت قريش مجلسًا استشاريًـا، وقررت صدَّ المسلمين عن دخول مكة وأداء العمرة، ثم حدث ما حدث من سفارة عثمان بن عفان رضي الله عنه وحبس قريش له، وإشاعة مقتله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم»(10).
ودعا أصحابه إلى البيعة فوثبوا إليه يبايعونه، وفي هذا اليوم الأغر(11) بايعت أم هشام بنت حارثة مع المبايعين الذين أنالتهم البيعة الميمونة رضوان الله، حيث قال فيهم عز وجل: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (الفتح: 18)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد»(12).
لتزهو أم هشام بنت حارثة وتزدهي بمنقبة البشرى النبوية في ذاك المجتمع الإسلامي المعتز بدينه، كما كانت تزهو وتزدهي في صباها بمنقبة الجيرة النبوية الشريفة.
وما بالقارئ حاجة إلى أن نصور له الوقع المتفرد للبشرى الميمونة في نفس أم هشام الحساسة وهي تجد فيها أنسها ومسرتها، وتذكرها وتتذكرها في مصبحها وممساها.
وفي حدث لم يقف التاريخ عنده أو يتمهل أمامه، وفي زمن لم يسجله أو يذكره صعدت أم هشام بنت حارثة إلى ربها، تحدوها إليه بُشْرَاها الميمونة لتعيشها في جنانه واقعًـا ملموسا، ورغم ندرة أخبارها في ذاكرة التاريخ، نلمح في سيرتها رقة ولطفًا، ومزايا وتفردًا(13).
_____________________
(1) لا عجب.
(2) المدينة التي هاجر إليها صلى الله عليه وسلم وجعلها سكنًا له.
(3) تهلل وفرح فرحا شديدًا.
(4) كلما تزوج صلى الله عليه وسلم بواحدة من نسائه.
(5) حديث مرسل، وفيه الواقدي وهو متروك.
(6) فرن يُخبز فيه، عبارة عن تجويفة أسطوانية تُـبطّن بخزف أو طوب محروق من الطين.
(7) الغلمان والبنات.
(8) حديث صحيح أخرجه مسلم (52)، (873) كتاب الجمعة.
(9) حديث صحيح أخرجه البخاري (3576)، ومسلم (1856).
(10) أخرجه ابن هشام في السيرة.
(11) اليوم الخالد، الشاهد.
(12) حديث صحيح أخرجه مسلم (2496).
(13) الإصابة (11587)، (12293)، أسد الغابة (7623).