(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33)، ليس على الأرض وظيفة أرفع مقاماً وأعلى قدراً من الدعوة إلى الله تعالى، وليس أجدر بالاهتمام في عصرنا هذا من إعداد جيل من الدعاة إلى الله خير الإعداد ليقوموا بمهمتهم في تبليغ دين الهداية في وقت يئن العالم فيه من الفوضى الأخلاقية والحروب الدامية، ويتوقف نجاح الداعية فيه على قدر عمق ثقافته واتساعها وإلمامه بما يدور حوله.
وتتوقف محددات ثقافة الداعية في كل عصر حسب طبيعة ذلك العصر ومشكلاته وتداخلات حضارته مع من حوله من الحضارات الأخرى، ومدى انفتاح مجتمعه وهيمنته أو تبعيته الثقافية والفكرية، وتعتبر الثقافة هي المكون الرئيس في شخصية أي إنسان، وكلما تمسك المسلم بثقافته الإسلامية وتعمق بها فهماً وسلوكاً؛ اتسعت مداركه، وقويت أخلاقه وكان أكبر قدرة في التأثير في غيره لا التأثر به.
ومصادر الثقافة الإسلامية تبدأ من القرآن الكريم، ثم السُّنة المطهرة، ثم التاريخ الإسلامي، ثم إجماع علماء المسلمين، فيمكن أن نقول: إنها أساس نهضة الأمة التي قال عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله».
والمربي أو الداعية المعاصر يلاقي العديد من التحديات التي لم يلاقها داعية من قبل، حيث تتداخل القيم وتختلط المفاهيم وتنبت ظواهر غريبة على المجتمعات العربية والمسلمة، أو كانت غريبة قبل اختراع الفضائيات والهواتف النقالة، وقبل أن تختلط المدارس، وتغرب المناهج التعليمية، ويحدث الفصام الوحشي بين التعليم الديني والتعليم المختلط؛ لتنشطر المجتمعات المسلمة وتحدث فيما بينها فجوات ضخمة بين الطبقات، وبين المنتج التعليمي الديني والعام، وبين الثقافة الواحدة في المجتمع الواحد، فيجد الداعية نفسه بين عوالم مختلفة في قُطر واحد، وعليه أن يكون قادراً على فهم كل ما يدور حوله، بل يتسلح بكل ما يلزمه من علوم معاصرة.
إشكالية التعليم الديني والواقع العلماني
في الوقت الذي تعد الكليات الدينية كوادرها الدعوية لإصلاح مجتمعاتها وتعريف الناس بأمور دينها، تركز في مناهجها على العلوم الشرعية بشكل أساسي، وهذا بالطبع واجب وأصل لإعداد الداعية المسلم والفرد المسلم، فهو يدرس عقيدة وعبادة واقتصاداً ونظم تعليم وتربية.
لكننا على صعيد آخر، نجد أن الداعية يخرج للمسجد ليجد عالماً موازياً ربما قد سمع به لكنه لم يعايشه حقيقة، خاصة أنه قد تلقى مراحل تعليمه منذ طفولته تعليماً دينياً خالصاً في مدارس إسلامية خاصة، أو معاهد دينية كالأزهر على سبيل المثال، ليفاجأ أن الدين الذي عاش عليه منذ صغره أصبح غريباً في الشارع والمدرسة والبيت والمؤسسة، أصبح غريباً عن سلوكيات الناس، وعن مفاهيم الموظف المرتشي أو الخامل عن أداء واجباته، أصبح غريباً عن الطالب الذي لا يعرف أركان الإسلام وعدد الركعات في كل فريضة من فرائض الصلاة، أصبح غريباً عن تعاليم الأسرة التي يهرب الابن فيها من الدرس ليقوم بالتدخين مع زملاء مثله، وتهرب البنت من مدرستها لتقابل فتاها أو ما يسمى بـ«البوي فريند»، أصبح غريباً حين تختلط الأسر فتسهر الأم في صحبة الزوج مع الأهل أو الأصدقاء دون مراعاة لأحكام الدين أو الموروثات في ضوابط الاختلاط! أصبح غريباً والمساجد فارغة ولا يرتادها إلا الشيوخ أو كبار السن ممن لم يعد لهم رغبة في الحياة.
يخرج الداعية لعالم آخر غير الذي اعتاده، فيجلس في المسجد منزوياً ينتظر أجيالاً يريد تغييرها، وهي لا تأتي للمسجد، لا هو يستطيع الخروج إليها حيث تكون!
إعداد آخر يلزم الداعية المعاصر
ومن ذلك نخلص إلى أن هناك علوماً أخرى غير تلك التي تلقاها الداعية في جامعته، تلك العلوم لا تلزمه الحصول على شهادة ما من أي جامعة، وإنما هي علوم ثقافية تنتمي لثقافة المجتمع الموبوء بأمراض العولمة المفروضة بقوة السماوات المفتوحة، ثقافة تلائم معارف طفل يحمل بين يديه جوالاً ينقل له العالم بين يديه في غرفته الخاصة، وتلائم آلافاً من البرامج الموجهة تحمل في طياتها ثقافة كاملة من مجتمعات غير مسلمة تستهدف عقل ووعي وإدراك أبنائنا ونسائنا.
فأقل ما يجب أن يجيده الداعية هو معرفة استخدام تلك الأدوات، حيث لا يوجد بديل إسلامي، فتقديم العقيدة، أو الفقه، أو التعريف بالدين، أو التعريف بالله عز وجل، لم يعد مقبولاً أن يقدم في تلك القوالب الجامدة بالمساجد وحلقات الذكر والتربية، بل يجب الوصول للفئات المستهدفة من العملية التربوية أو الدعوية إلى حيث يوجدون، وكما استطاع الغير الولوج إليهم في عمق دورهم، فعلى الداعية فعل ما هو أكثر من ذلك، أن يحسن استخدام كافة وسائل التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، أن يكون هناك فئة تهتم بالفن وكيفية فتح هذا المجال بقوة ولو بصناعة مشاهد قصيرة تنشر على «تيك توك» لتوصيل رسائل قصيرة وسريعة ومركزة، على الداعية المعاصر أن يكون ملماً بألاعيب العلمانية كي لا تنتصر عليه بينما هي أوهى من بيت العنكبوت!
ثقافة الداعية عند الشيخ القرضاوي(1)
وأفضل من وضع أطر عامة لثقافة الداعية الشاملة الشيخ القرضاوي، رحمه الله، وأوجزها في 6 نقاط مركزة كالتالي:
1- ثقافة إسلامية: تشمل كافة ما يتعلق بالعلوم الشرعية وفنون الدعوة إلى الله سواء كانت التي يتلقاها في دراسته الأكاديمية أو من خلال قراءاته وتبحره في المكتبات المتوفرة في كافة بلاد المسلمين، بالإضافة إلى المهارات الخاصة بعلم التواصل مع الآخرين
2- ثقافة تاريخية: المقصود بها كافة ما يتعلق بالتاريخ الإنساني الإسلامي والغربي، القديم والحديث، والأنبياء والمصلحين إلى جانب الطغاة والمتجبرين ومصارعهم في التاريخ، وأسباب النصر والتمكين، وأسباب قيام الحضارات وعوامل انحطاطها.
3- ثقافة أدبية ولغوية: هي ما تتصل بعلوم اللغة والأدب والشعر، حيث إن اللغة العربية التي حوت كلام الله عز وجل، فهناك حد أدني من العلم بها لكل داعية حتى لا يعجزه فهم الآيات حين يتعرض لها في ظل هجمة استشراقية جديدة تحاول النيل من كتاب الله، وقد يلتبس الأمر على الجهلاء باللغة ويجب ألا يقع الداعية في مسألة كتلك.
4- ثقافة إنسانية: هي فرع مهم من فروع العلوم الخاصة بالدعوة الإسلامية، حيث دراسة النفس الإنسانية المعقدة والمتشعبة بخفاياها ومفاتيحها، وقراءة أسرارها، فما ينفع لإنسان قد لا ينفع لمثيله، فالناس مختلفون وقد خلقهم الله عز وجل مختلفين، منهم العقلاني ومنهم العاطفي، منهم سريع الغضب ومنهم سريع الفيء، منهم الحركي ومنهم الهادئ، ويلزم الداعية معرفة ما يعينه على التعامل مع النفوس المختلفة بصورة سلسة.
5- ثقافة علمية: المقصود من هذه الثقافة ما وضحه قول الشيخ حسن البنا: «أن يعرف شيئاً عن كل شيء»، فالإنسان بطبيعة الحال لن يستطيع أن يلم بكافة العلوم المحيطة به على تعددها، لكنه من غير المقبول ألا يعلم المربي استخدامات الطاقة وتطورها وآخر ما وصل إليه العلم فيها، وليس مقبولاً كذلك ألا يكون عنده علم بفنون الاتصال الحديثة والمتطورة يوماً بعد يوم أو آخر ما وصل إليه العلم فيما يحيط بالإنسان ويستخدمه يومياً في حياته.
6- ثقافة واقعية: تلك المعارف هي لب ما يحتاج إليه الداعية في ممارساته الدعوية اليومية، حيث يكون على دراية بكافة الأحداث العالمية والمحلية التي تهم الناس عامة، معرفة العلاقات الدولية المتشابكة والمتغيرة والمستحدثة التي تقوم على المصالح عموماً، الصراعات الدولية القائمة وتأثيرها على الواقع المحلي والمجتمعي، سبل التواصل مع الآخر وكيفية التأثير فيه فضلاً عن الوصول إليه.
تلك، باختصار، محددات ثقافة الداعية المعاصر التي تعينه على أداء مهمته الشاقة بأفضل وأقصر السبل.
_____________________
(1) من كتاب «ثقافة الداعية» للشيخ يوسف القرضاوي، رحمه الله.