الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة تتجاهل الفروق الفطرية التي خلقها الله لحكمة
الطريق إلى النهضة الحقيقية للمرأة لا يكون بالتخلي عن هويتها بل بالعودة إلى ينابيع الإسلام الصافية
مع تلاشي الحدود الجغرافية والتقنية في وصول الأفكار، يتنامى على التوازي خطر انتشار الأفكار النسوية المتطرفة، حتى تحولت «الفيمينزم» (النسوية) إلى واحدة من أعقد القضايا التي تواجه مجتمعاتنا الإسلامية، إذ تنطوي على ضرورة مواجهة أخطار تدمير هوية بناتنا في ظل واقع بائس يهضم بالفعل الكثير من حقوقهن الشرعية.
وتثير هذه المفارقة تساؤلات عميقة حول دور الشابة المسلمة في المجتمع وحقوقها وواجباتها، وهو ما نراه متطلباً لحكمة بالغة وفهماً عميقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية، مع الأخذ بعين الاعتبار تحديات العصر ومتطلباته، خاصة بعدما شهدنا في السنوات القليلة الماضية صعوداً ملحوظاً لأصوات تطالب بالمساواة والتحرر، متأثرة بالأفكار الغربية التي تروج لها الحركات النسوية تحت راية المساواة المطلقة مع الرجال.
وحقيقة الأمر أن التفاعل مع الأفكار النسوية ليس جديداً في العالم العربي، لكن رواجه هو ما اكتسب زخماً كبيراً في السنوات الأخيرة، حيث باتت الشابات العربيات يتصدرن مشهد المطالبة بالمساواة في مختلف المجالات؛ ما أثار تساؤلات حول دور «الفيمينزم» في صياغة هوية المرأة المسلمة المعاصرة، ومدى توافق هذه الحركة مع القيم الدينية والاجتماعية السائدة.
وسيكون إنكار تأثير الحركة النسوية الغربية على الشابات في عالمنا العربي والإسلامي دفناً لرؤوسنا في الرمال، خاصة الشابات في المدن الكبرى، إذ إن بيئة المدن أكثر تأثراً بالثقافة الغربية عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، بحسب دراسات حديثة.
وهذا التأثير قد يخلق نوعاً من الازدواجية في الهوية، حيث تجد الشابة نفسها ممزقة بين الحفاظ على قيم دينها وتقاليدها، ورغبتها في الانفتاح والتغيير، على توازٍ مع واقع بائس بالفعل، وينعكس هذا الصراع في العديد من جوانب حياتها، سواء في الملبس أو الزواج أو أسلوب الحياة أو حتى التطلعات المهنية.
وهنا يطرح الواقع سؤاله: هل هذه الدعوات النسوية تتوافق مع تعاليم ديننا الحنيف؟ وهل نحن بحاجة إلى استيراد مفاهيم غربية لتحقيق العدالة للمرأة في مجتمعاتنا؟ إذا كانت الإجابة بأن الإسلام كرّم المرأة وأعطاها حقوقها كاملة منذ 14 قرناً، في وقت كانت فيه المرأة تُعامل كسلعة في معظم الحضارات، فهذا صحيح، فالقرآن يؤسس لمبدأ المساواة الكلية بين الرجال والنساء على قاعدة (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228)، لكن تكملة الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)، وهو المعنى الذي لا يبدو متقبلاً في الطرح النسوي المعاصر.
ومع ذلك، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن واقع المرأة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية لا يعكس المبدأ القرآني، فهناك ممارسات ظالمة وأعراف بالية تحرم المرأة من حقوقها الأساسية في التعليم والعمل وحرية الاختيار، وهنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف نعيد للمرأة المسلمة حقوقها التي كفلها لها الإسلام دون الانسياق وراء دعوات التغريب التي قد تهدد هويتنا وقيمنا؟
إن الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، كما تطرحها بعض التيارات النسوية الغربية، تتجاهل الفروق الفطرية التي خلقها الله تعالى لحكمة يعلمها هو، فالله عز وجل خلق الذكر والأنثى وجعل لكل منهما خصائصه وأدواره التي تتكامل لتحقيق عمارة الأرض، قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (آل عمران: 36)، وهذا الاختلاف ليس تفضيلاً لجنس على آخر، بل هو تنوع وتكامل يحقق التوازن في المجتمع.
من هنا، بات من الضروري تفنيد أفكار تيار ما يُسمى بـ«الفيمينزم الإسلامي»، وهو محاولة للتوفيق بين الأفكار النسوية الغربية وتعاليم الإسلام، وهذا المصطلح فيه نظر؛ لأن الإسلام كامل بذاته ولا يحتاج إلى إضافات من خارجه، والأولى أن ندعو إلى حقوق المرأة في الإسلام دون الحاجة إلى مصطلحات دخيلة قد تحمل في طياتها مفاهيم تتعارض مع عقيدتنا.
ومن هذه الحقوق، قضية عمل المرأة، وهو الحق الذي لم يمنعه الإسلام مطلقاً، فالعمل المشروع الذي يناسب فطرة المرأة ولا يتعارض مع واجباتها الأسرية حلال بالإجماع، بل إن تاريخنا الإسلامي حافل بنماذج للمرأة العاملة، بداية من نموذج المرأة الأنصارية التي اعتادت العمل في بيئة تختلف كثيراً عن بيئة النساء ببيئة قريش في عهد النبوة.
لكن ذلك لا يجب أن ينسينا أن الأمومة هي أشرف وظيفة للمرأة، وأن رعاية الأسرة هي مسؤولية عظيمة لا يجب التقليل من شأنها على النحو الذي نلحظه دائماً في طرح الحركات النسوية، وكأن أدوار المنزل سُبَّة أو عار على المرأة أن تمحوه.
لبنة أساسية
الأسرة كما يعلمنا ديننا هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، وصلاحها من صلاح المجتمع كله، والدعوات المتطرفة التي تنادي بتخلي المرأة عن دورها الأسري بحجة تحقيق ذاتها هي دعوات خطيرة تهدد استقرار الأمة كلها.
إن التوازن بين الواجبات الأسرية والطموحات الشخصية هو ما يجب أن نسعى إليه، وهو ما يتفق مع روح الإسلام الوسطية، بعيداً عن روح «الندية» التي تغلق فكر الحركات النسوية دائماً، وكأن المرأة في مباراة ملاكمة مع الرجل!
الأمر ذاته ينعكس على قضايا أخرى مثل الزواج، إذ تدعو النسويات إلى إعادة النظر فيما يسمينه «الأدوار التقليدية للزوجين»، وهو ما يؤدي إلى زعزعة استقرار الأسرة على قاعدة أسئلة استنكارية، منها: لماذا تقوم المرأة بأدوار المنزل؟ لماذا لا يقوم بها الرجل؟
وإذا كان الشرع الحنيف لم يجعل هذه الواجبات فريضة شرعية بالمعنى الحقوقي، فإن مقتضاها ينطوي عليه حسن تبعل المرأة لزوجها، كما أن إنكارها يخدش مفهوم القوامة المقرر في قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء) (النساء: 34).
والقوامة هي القيام على الأمر لحسن تدبيره؛ ما يعني أنها مسؤولية على الرجل، ولا تعني أي ظلم للمرأة أو انتقاص لحقوقها، خاصة مع مشروطيتها الواردة في الآية ذاتها: (بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء: 34).
لك سفينة قيادة، ولا يمكن للقيادة أن تكون لأكثر من ربان، وعليه؛ فإن القوامة تنظيم للحياة الأسرية وفق الفطرة السليمة، لا تفضيل لمطلق الرجال على مطلق النساء، وهي مسؤولية وتكليف للرجل بالإنفاق والرعاية، وليست تسلطاً أو استبداداً.
إن التحدي الذي يواجه نساءنا اليوم يتمثل في كيفية الموازنة بين الحفاظ على هويتهن الإسلامية والاستفادة من معطيات العصر، فليس كل ما يأتي من الغرب شراً محضاً، كما أنه ليس كل ما هو قديم يجب التمسك به، والمطلوب هو إعمال العقل والاجتهاد لفهم روح الشريعة ومقاصدها.
ولعل من أهم ما يجب التركيز عليه في هذا الصدد هو تمكين المرأة من خلال التعليم والتثقيف، فالمرأة المتعلمة الواعية بدينها وحقوقها هي أقدر على مواجهة تحديات العصر والحفاظ على هويتها في الوقت ذاته، كما أن علينا العمل على إصلاح المفاهيم الخاطئة عن دور المرأة في المجتمع، سواء تلك التي تدعو إلى تهميشها باسم الدين، أو تلك التي تدعو إلى تغريبها باسم التحرر.
إن الطريق إلى النهضة الحقيقية للمرأة المسلمة لا يكون بالتخلي عن هويتها، بل بالعودة إلى ينابيع الإسلام الصافية، والعمل على تطبيق تعاليمه السمحة في واقعنا المعاصر، فالإسلام صالح لكل زمان ومكان، وفيه الحلول لكل ما يواجهنا من تحديات، إن نحن أحسنا فهمه وتطبيقه، وقضية المرأة قضية المجتمع كله، رجالاً ونساءً، ولا يمكن أن ينهض مجتمع نصفه معطل أو مظلوم.