الطبيعة البشرية واحدة في القارات المزدحمة بسكانها، وعلى امتداد الأمس واليوم والغد، والناس يذوقون آثار هذه الطبيعة حلوها ومرها، وقلما تختلف أحكامهم عليها، فالظلم مستقبح، والعدل مستحسن، والدناءة عيب والشرف محمدة.
ومع ذلك فإن الذين يحبون العوج ويكرهون الاستقامة كثيرون وبلغ من كثرتهم أن ذلك كاد يعد طبعا للناس، فإن طغيان الظلمة سود تاريخ العالم.
وفي ذلك يقول المتنبي:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من أمره ما عنانا
ثم يقول:
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء للقناة سنانا
والواقع أنه وجد كثيرون لا يرون حرجاً من السطو على كدح العاملين واقتناصه سُحتًا، وكثيرون يرون راحتهم في الخلاص من خصومهم، والإجهاز على حياتهم، وكثيرون يرون لذة المخالسة في الاستيلاء على عرض حرام أولى من الارتباط به عن طريق الحلال الحلو والبارد العذب.
والغريب أن الصور الجزئية لهذه الجرائم يمكن أن تضبط وتحاسب، أما الصور الكبرى فإن الإفلات فيها بالغنائم الحرام ميسور وشائع، وقد قرأت لأحد الصحفيين هذه الكلمات: «اللصوص يسرقون ويهربون، بعضهم يدركه العقاب، والآخرون يفرون بما سرقوا ونهبوا دون أن يمسهم أذى! فالذي يسرق الرغيف يدخل السجن، والذي يسرق الفرن لا يدخل السجن! لأن سارق الرغيف لص ضعيف، أما سارق الفرن فهو لص قادر يتعاون مع عصابات قادرة، ويجد من الأموال التي سرقها ما يقدره على تدويخ العدالة، فهو يوكل أحسن المحامين عنه، وبين براعة الدفاع وعناء القضاء تذهب الحقيقة»!
وإفلات مجرمين من يد العدالة غير مستغرب، ولكن المستغرب وجود لصوص من طراز آخر، لصوص شرفاء جدا، لا يُتهمون، ولا يُقدمون للعدالة أبدا، لصوص لهم مناصب مهيبة وألقاب طنانة وكلمات نافذة..! سرقوا شعوبهم جهرة، ونمت لهم ثروات طائلة، واحتبست الألسن في الحلوق فما تقدر أن توجه لهم لفظا!
والسرقات من هذا النوع تجئ عرضا، أو تجئ تابعة للاستيلاء على السلطة، والاستمكان من مقاليد الأمور، واغتصاب الحكم لشهوة عارمة شيء غير تولي الحكم باسم الله ورضا الأمة، الأول فجور والثاني تقوى.
الأتقياء في التاريخ السياسي ندرة
ويظهر أن الأتقياء في التاريخ السياسي للأمم كانوا أندر من الماء في الصحراء، وإن الذين غلبوا على مصاير الأعم كانوا قطاع طريق مهرة في سرقة الأمجاد والكفايات، وبناء الجاه والسطوة والأبهة على أنقاض المستذلين والضائعين! وقد حكى القرآن أن واحداً من أولئك الفراعنة جادل إبراهيم في ربه، وزعم أنه له سلطاناً يضارع سلطان الله في أرضه؛ أليس قادراً أن يعدم من يشاء ويستبقى من يشاء؟
كان المألوف في سلطات هؤلاء الحكام أن يعلن أحدهم الحرب، ويسوق إلى ميدانها الألوف المؤلفة من الناس كي يحققوا له مجداً ويكتبوا بدمائهم سجل عظمته، وكان المألوف أن تجبى ثمرات الأرض لشخصه الكريم ضرائب مباشرة وغير مباشرة لتلبي أولاً حاجاته وحاجات أتباعه، ثم يرمي الفتات الباقي للمصالح العامة.
وقد سبقتنا أوروبا إلى تقليم أظافر حكامها، فقتلت بعضهم في ثورات حانقة، ووضعت دساتير دقيقة لضبط مسالك الباقين، حتى صار الحكم هناك خدمة عامة يختار لها الأكفأ، ويراقب من خلال أجهزة يقظة، ويُطرد ولا كرامة إن بدا منه ما يريب.
أما الشرق الإسلامي، فإن الفساد السياسي بقي في أغلب ربوعه حتى القرن الرابع عشر للهجرة، إنه متأخر بضعة قرون في طريق التقدم العالمي، ولا يزال اكتساب الحكم فيه سهلا، ولا يزال الحكم وتملق الحاكمين أخصر طريق للمال والجاه، وما يثير الدهشة هو الفرق الكبير بين تعاليم الإسلام وأحوال المسلمين.
المشتغلون بالعلوم الدينية والسوأة الكبرى
وما يثير الدهشة أكثر وأكثر هو موقف المشتغلين بالعلوم الدينية وفقه الشريعة، كأن هؤلاء كونوا بطريقة خاصة ليكونوا حواشي للحاكمين! لقد فزعت وأنا أرى كبيراً منهم يصفق بيديه -مثل صبي طائش- تكريماً أو إرضاء لأحد الحكام! إنني أعلم أنه من أجل ذلك اختير! لكن الهبوط ما ينبغي أن يبلغ هذا الدرك ولو لحماية المظاهر، والسقوط الخلقي آفة بعض رجال الدين، ولكني أظن ذلك سبباً ثانياً لفساد الحكم في العالم الإسلامي.
إن السبب الأول هو خلل التفكير الفقهي عند الجم الغفير من المتكلمين في الفقه!
سمعت جدالاً بين أناس يتحدثون عن حكم لمس المرأة ولمس إحدى السوأتين، والأقوال المتضاربة في هذه القضية!
فقلت لهم: هذه أحكام تُقرّر في خفوت، ويُذكر الخلاف فيها بكثير من التجاوز، وأمرها لا يستحق هذا الحماس ولا ذلك العناد!
فنظروا إليَّ مستنكرين! فقلت لكبيرهم: أتعرف شيئاً عن السوءة الكبرى في الإسلام؟ وجاء الرد بسرعة، أي سوءة؟
قلت: ضياع الإسلام في الأندلس وذهاب ريحه وانتهاء دولته ومحو حضارته!
هل درستم أسباب ذلك، وأخذتم الحيطة حتى لا تتكرر المأساة؟
إنني أدهش عندما يجيئني متقعر يسألني: هل يقضي المأموم الركعة إذا لم يقرأ الفاتحة ولكنه أدرك الإمام راكعاً؟
لقد قلت لهذا السائل: الجمهور على أنه لا يقضي!
فقال بسماجة: لا، يجب أن يقضي والسُّنة الصحيحة توجب ذلك! قلت له: ما دام يؤثر الرأي الآخر فليقض الركعة!
فأراد أن ينشئ معركة علمية في هذه القضية.
فقلت له بصبر نافد: إن تعلقكم بهذه الخلافات لا مساغ له! أريد أن أسألك: التناصر بين المسلمين واجب، فكيف ينصر المسلم في أفريقيا أخاه في آسيا، هل فكرتم في ذلك، واكتشفتم وسيلة مادية أو أدبية؟
إن الحكومات تعالج شؤوناً عادية وعبادية خطيرة، فهل فكرتم في طريقة لنصحها، وعرض وجوه الرأي عليها، وإلزامها بالحق إن هي رفضته، وتأمين معارضيها إذا فكر مستبد في إيذائهم.
إن تخلف المسلمين شائن في دنيا الناس فهل فكرتم في أسلوب يكشف عنهم هذا العار؟
حتى إذا تقدموا صناعياً وحضارياً أمكنهم أن يدفعوا عن عقائدهم، ويحموا مساجدهم من نظم تريد إغلاقها، ومنع اسم الله أن يذكر فيها؟
فقال لي المتفقه المغفل: هذه سياسة وأنا أكلمك في الفقه!
قلت: أنا أكلمك في الفقه، وأنت وأمثالك صرعى سياسات محقورة شغلت الجماهير بالخلافات الصغيرة حتى يمضي الفجار في طريقهم دون عقبات.
إن الاستبداد السياسي استطاع على تراخي الأيام أن يحذف أبواباً مهمة من قسم «المعاملات» في فقهنا الضخم! أو أن يجعل حقائقها ضامرة مهزولة لأن الكلام فيها مرهوب النتائج.
ومن ثم طال الحديث في أمور هينة وكثرت فيها التفريعات والأخيلة البعيدة، على حين صمت الفقه في الأمور الجلل.
وتم البت في قضايا المسلمين العظمى بين جماعات من الفُتاك يذكرون أنفسهم وأتباعهم كثيراً ولا يذكرون الله إلا قليلاً.
وقد وقعت فواجع في بيئات الحكم يندى لها الجبين، وأهيل عليها التراب دون تعليق، ففي اليمن قتل أمير -أو تآمر على قتل- تسعة من إخوته حتى تخلص إمامة المسلمين للأخ القاتل وحده!
ومطلوب من الفقه الإسلامي أن يشغل بمكان وضع اليدين في الصلاة! أو برفعهما قبل الركوع! وهي أحكام تتساوى فيها وجهات النظر، ولا يأثم مسلم يجنح فيها إلى السلب أو الإيجاب.. نعم مطلوب منه إفاضة الكلام في هذه القضايا وتكوين عصابات من الرعاع تشغل المصلين بهذه الأحكام، وتثير بينهم الفتن! أما سياسة الحكم والمال فعلاقة الفقه بها مقطوعة، وحسب نفر من العلماء المعاصرين أن يرددوا فيها أقوالاً سقيمة، قررها الجبناء الهاربون أو المفكرون القاصرون.
كانت النتيجة المريرة أن حكَم المسلمين رجالٌ لا يؤمَنون على شيء، ولا تحركهم إلا غرائز طفولية من جنون العظمة والاستئثار بالسلطة.. ولم تكن القوة المعادية للإسلام غافلة! ومتى غفلت؟ إنها بين الحين والحين تنفذ من هذه الثغرة في مجتمعنا لتهلك الحرث والنسل، وهي تفعل ذلك بأيدينا نحن لا بيد زيد أو عمرو!
ومن أعصار طويلة وهذه الفوضى الفكرية تسود العالم الإسلامي وتعوج بخطاه عن بر هدف شريف فإذا قضايا كبيرة تموت مكانها لا يكترث بها أحد، وإذا أمور توافه يهيج لها الخاصة والعامة!
سُنة الله تمضي
ومضت سُنة الله في أمتنا كما مضت في كل مجتمع مختل، فتدحرجنا من مكان الصدارة إلى ذنب القافلة الإنسانية، وأسأنا إلى ديننا بقدر ما أسأنا إلى أنفسنا.. وجاءت ساعات الصحو والمحاسبة وتأنيب الضمير! وبدأنا نغضب لما أصابنا ونأسف لما ضاع منا، فكيف العمل؟
البعض يريد السير في ذات الطريق الذي انتهى به إلى الذل..
البعض يرفض بكبر غريب أن يعرف لماذا تقدم غيرنا..
البعض يعجز عن فهم الفطرة الإنسانية ويظن الدين حربا عليها!
________________________
المصدر: من كتاب «الفساد السياسي».