يشير مصطلح الخطاب الديني إلى تلك المجموعة من التوجيهات والإرشادات التي تصدر عن المؤسسات الدينية أو الأفراد من أجل تنظيم وتوجيه الجماعات لما فيه صلاحهم الديني، ويتم بثها في شكل خطب أو رسائل أو مؤلفات أو دروس أو فتاوى باستخدام طيف واسع من وسائل الاتصال وطرائق النشر، وبذلك يعبر مصطلح الخطاب الديني عن واحد من أهم المكونات التي ينطوي عليها المجتمع المسلم، إذ يضم كل ما هو مستند إلى الدين ومعبر عنه ابتغاءً لتحقيق الخير العام للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، ويتطرق إلى كافة موضوعات حياة الفرد والمجتمع من عبادات ومعاملات وسياسة واجتماع واقتصاد وأخلاق وقيم.
تحديات الخطاب الديني المعاصر
وفي عصرنا الراهن حيث تعقدت الحياة وتطورت وسائل الاتصال بشكل غير مسبوق، وتنوعت القضايا المستحدثة التي يحتاج المسلمون لفتاوى بشأنها، وكثرت الفتن التي تحيط بالمسلمين وبخاصة الشباب والنشء بما يتطلب خطاباً توعوياً محفزاً للعقلية النقدية ومشجعاً على الوعي والمقاومة الفكرية والثقافية، فإن الخطاب الديني يواجه تحديات غير مسبوقة في مسائل التطوير والتجديد، وفي الشكل أو المضمون أو الوسائل بما يواكب العصر ويعزز الفاعلية.
ويواجه الخطاب الإسلامي المعاصر عدداً من المعوقات أمام النجاح المأمول لمحاولات الإصلاح، في ظل انقسامات فكرية وحضارية ومطالبات تخضع لثنائية «نحن/ الغرب»؛ مما جعل مسألة التجديد بمثابة أداة يتم توظيفها بين فريقي التغريب والمحافظة، وهي الثنائية التي تهدد أي محاولات لتجديد الخطاب وتهدر الطاقات في تجاذبات ثنائية فرضها الغرب على الأمة منذ قرون لإشغالها في صراعات جانبية عن الوصول إلى حلول ناجعة لمشكلات المجتمع، ومن أبرز تلك الثنائيات والاتهامات التي تحاصر عمليات تجديد الخطاب الديني وتحول دون نجاحه:
– التطرف والوسطية:
يعيش الخطاب الديني الإسلامي اتهامات غربية بالأساس بالتطرف تلاحقه وتحاصره داعية إياه بانتهاج الوسطية التي تبتغي بالأساس تفريغ الخطاب الديني من مضمونه وتمييعه إلى الحد الذي يكون فيه مقتصراً على مناقشة العبادات دون المعاملات والخصوصيات دون العموميات، وهي الدعوات التي دفعت كثيراً من اجتهادات التجديد نحو محاولات الدفاع عن الإسلام من تهم التطرف والغلو والإرهاب وأفسدت جوهر التجديد الذي ينبغي أن يستهدف حاجات المجتمع الحقيقية بعيداً عن الاتهامات الغربية الجاهزة.
– الموضوعية والتغريب:
نتج عن الضغوط التغريبية التي شهدها العالم الإسلامي منذ الحملات الاستعمارية الغربية، أن سعت كثير من المحاولات التجديدية إلى إصلاح الخطاب الإسلامي باستخدام مفاهيم وأدوات غربية بالأساس، عبر نقل التجربة الغربية في الإصلاح الديني التي لا تتشابه بأي شكل مع التجربة الإسلامية، وهي محاولات أرادت فرض العلمنة على الدين الإسلامي وخطابه بفصله عن الحياة السياسية تحت دعاوى التسامح واحترام الآخر والفردانية والمواطنة، وهي الدعاوى التي كانت تمثل مطالبات منطقية في ظل الحروب الدينية الطاحنة التي شهدتها أوروبا إبان اقتتال الكاثوليك والبروتستانت؛ مما فرض على الخطاب الديني الإسلامي تحدي مواجهة تلك الموجات التغريبية وأشغلت صناع القرار في المؤسسات الدينية بمحاولات تجديدية تخضع لتقييم غربي من خارج النطاق الإسلامي برمته وأنتج تبعاً لذلك محاولات مشوهة لتجديد الخطاب الإسلامي بمعايير غربية مفروضة من الخارج.
– الانفتاح والمحافظة:
أسفرت الاتهامات الغربية للإسلام عن خضوع محاولات التجديد لإملاءات خارجية تتطلب صياغة خطاب ديني منفتح على الآخر، وهو ما خلق نوعين من الخطاب الديني، الأول رسمي يسعى لاسترضاء الغرب بالتخلي عن كثير من مضامين الخطاب التي تطالها انتقادات، والآخر غير رسمي تبنته الجماعات الإسلامية المتشددة ذاهبة في الاتجاه الآخر ومستغرقة في الرجعية والتحفظ ابتغاء الوقوف في وجه الغرب، وفي كلا الحالتين ساهمت تلك الإملاءات والاتهامات في تشويه تجديد الخطاب الديني على النحو الأمثل الذي يخضع لنقد وتصحيح ذاتي ويستجيب بشكل موضوعي لحاجات ومتطلبات الأمة الإسلامية، وأغرق مسؤولي تجديد الخطاب الديني في جهود الدفاع عن الخطاب الديني دون الإقدام بشكل حقيقي على نقده موضوعياً ومن ثم تصحيح الأخطاء.
– التقليد والاجتهاد:
يواجه الخطاب الديني المعاصر تحدياً بارزاً في مسألة الاجتهاد والتقليد، ففي ظل تراجع حضاري وثقافي طال كافة مجالات الفكر في العالم الإسلامي، وانهيار الأنظمة التعليمية التي تحض على النقد والإبداع والاجتهاد والمنهجية العلمية، صار الاجتهاد متعذراً في كثير من الأحيان لعدم وجود الكفاءات حيناً ولعدم تشجيع مبدأ الاجتهاد نفسه أحياناً أخرى لغياب الإرادة السياسية والدينية لدى كثير من الدول الإسلامية، وهو ما طبع محاولات التجديد في كثير من الأحيان بطابع جزئي وقصير الأمد وشكلي مع استمرار نفس المشكلات التي يعاني منها الخطاب الديني منذ عقود.
انتقادات الخطاب الديني
– الجمود: يشوب الخطابَ الديني جمودٌ على أكثر من مستوى، فعلى مستوى المضمون لا تزال كثير من القضايا والاجتهادات هي نفسها التي درج المسلمون عليها منذ قرون، مع إغفال كثير من المسائل والتحديات التي تتطلب تجديداً في الاجتهاد وإبداعاً في التعاطي، وعلى مستوى الوسائل يشمل الجمود غياب الوعي بالتكنولوجيا الحديثة واستخدامها بالشكل الأمثل للوصول إلى الأجيال الجديدة وفهم طرائق تفكيرها للتأثير فيها بالشكل الأمثل.
– التطرف: نتيجة تعرض كثير من المجتمعات الإسلامية للإرهاب الغربي على خلفية الاحتلال واستنزاف الثروات والهيمنة الاقتصادية، فإن خطاباً إسلامياً متطرفاً ضد الغرب بشكل أساسي قد نبت وانتشر وحقق جاذبية كبيرة بين فئات متنوعة من المسلمين وشجع كثيرين على دفع المظالم باستخدام العنف، وهي انتقادات يجب أن تؤخذ في الاعتبار عبر صياغة خطاب ديني جديد يعتمد على الوعي ويحض على المقاومة الفكرية والحضارية كوسيلة أنجع وأكثر فاعلية من العنف.
– الطائفية: ساهمت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية في ترسيخ التفكير الطائفي في العالم الإسلامي، وهو ما انعكس بدوره على كثير من أشكال الخطاب الديني خاصة غير الرسمي ولدى الجماعات الإسلامية، وهو ما يتطلب جهداً كبيراً في صياغة خطاب ديني عالمي يستوعب الاختلافات وينبذ الخلافات التي يتم استخدامها لتمزيق المسلمين.
– الانعزال عن المجتمع: تتم كثير من مناقشات ومحاولات التجديد المنشودة بمعزل عن المجتمع المعني أساساً بهذا الخطاب، بما يجعل كثيراً من التجارب التجديدية بعيدة عن أهداف وتطلعات المجتمع ولا تلبي حاجاته بشكل حقيقي، وهو ما يسهم في استمرار توسيع الهوة بين الخطاب الديني –خاصة الرسمي- والمخاطبين به، ويدفع باتجاه لجوء هؤلاء المخاطبين لخطابات دينية غير رسمية وغير خاضعة لأي رقابة حقيقية بما يقلل الثقة في الخطاب الرسمي ويهدر جهود التجديد.
إن الخطاب الديني لا يرادف الدين، بل هو اجتهادات بشرية لاستنباط أحكام وتوجيهات دينية من النصوص الإسلامية ومصادر التشريع الأساسية، وهي الاجتهادات التي حتماً يجب أن تخضع للتمحيص والنقد والتجديد بمرور الوقت، عبر مراعاة مستحدثات الأمور والقضايا وتطورات التكنولوجيا ووسائل الاتصال، وتحقيق اتصال فعال بالمخاطبين لتلمس احتياجاتهم وتطلعاتهم وفهم متطلباتهم لتحقيق أقصى فعالية ممكنة للخطاب الديني وللحيلولة دون ظهور خطابات دينية بديلة تعمل على شرذمة الخطاب الإسلامي وتشويه صورته ونشر قيم وتوجيهات غير مستحبة.