لقد امتن الله عز وجل على البشرية، التي عاشت في ضلال وفساد وعداوة وتقاطع وإيذاء واعتداء، بنور رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هداهم بعد ضلال، وأصلحهم بعد فساد، وألَّف بين قلوبهم بعد عداوة، وحثهم على التواصل بعد انقطاع، ودعاهم إلى مجانبة إلحاق الضرر بالآخرين، قال جل شأنه: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ {15} يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة)، وقد بدا نور المصطفى جلياً واضحاً كالآتي:
أولاً: نور النبي قبل مولده:
لمّا خرج عبدالمطلب بابنه عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم ليزوجه، مر به على امرأة كاهنة من أهل تبالة متهوّدة قد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبدالله فقالت: يا فتى، هل لك أن تقع عليّ الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال عبدالله:
أما الحرام فالممات دونه والحلّ لا حلّ فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه
ثم مضى مع أبيه فزوّجه آمنة بنت وهب، فأقام عندها ثلاثاً، ثم مرّ على تلك المرأة فلم تقل له شيئاً، فقال لها: ما لك لا تعرضين عليَّ ما عرضت عليَّ بالأمس؟ فقالت: من أنت؟ قال: أنا فلان، قالت: ما أنت هو، ولئن كنت ذاك لقد رأيت بين عينيك نوراً ما أراه الآن، ما صنعت بعدي؟ فأخبرها، فقالت: والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون فيَّ وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراده، اذهب فأخبرها أنها حملت خير أهل الأرض(1).
فالنور الذي كان في وجه عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم لهو نور رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أراده الله تعالى لدنيا الناس، ولقد كان هذا النور قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم للدنيا.
ثانياً: رؤية والدة النبي النور عند مولده:
لقد رأت والدة رسول الله صلى الله عليه وسلم نوراً خرج منها بخروج النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت: إِنِّي حَمَلْتُ بِهِ، فَلَمْ أَحْمِلْ حَمْلاً قَطُّ كَانَ أَخَفَّ عَلَيَّ، وَلَا أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ، ثُمَّ رَأَيْتُ نُورًا كَأَنَّهُ شِهَابٌ خَرَجَ مِنِّي حِينَ وَضَعْتُهُ، أَضَاءَتْ لَي أَعْنَاقُ الإِبِلِ بِبُصْرَى(2).
وعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ بُصْرَى وَبُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ»(3).
ثالثاً: رؤية الحاضرين لمولد النبي النور عند ولادته:
لقد حضرت نسوة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاهدن هذا النور، فعن عثمان بن أبي العاص قال: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نوراً، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: ليقعن عليَّ، فلما وضعته خرج منها نور أضاء له الدار والبيت حتى جعلت لا أرى إلا نوراً(4).
ولم تشهد أم عثمان وحدها، بل شهد هذا النور غيرها، فعن عبدالرحمن بن عوف عن أمه الشفّاء بنت عمرو بن عوف قالت: لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهلّ، فسمعت قائلاً يقول: رحمك الله أو رحمك ربك فأضاء ما بين المشرق والمغرب حتى إني نظرت إلى بعض قصور الروم، قالت: ثم ألبسته وأضجعته فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة عن يميني فسمعت قائلاً يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المغرب وأسفر عني ذلك، ثم عاودني ذلك الرعب والقشعريرة عن يساري فسمعت قائلاً يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، قالت: فلم يزل الحديث مني على بال حتى بعثه الله تعالى، فَكُنْتُ فِي أَوَّلِ النَّاسِ إِسْلَامًا(5)، فقول الشفاء: لم يزل الحديث مني على بال، دال على بقاء نوره، ومتابعتها له لعلو شأنه، حتى نزلت عليه الرسالة فأسلمت به رضي الله عنها.
رابعاً: ملازمة النور للنبي:
لقد ظل النور ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يجالسه أحد إلا ويرى هذا النور، ولا يكاد يصفه أحد إلا ويذكره.
فعن الحسن بن علي قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصافاً عن حلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخّما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر(6).
وقالت أم معبد: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه(7).
وقال أبو هريرة: ما رأيت أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تخرج من وجهه(8).
خامساً: هدف النور الملازم للنبي:
إن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء إلى الحياة، إنما جاء ليؤسس لرسالة آتية دائمة، جاء ليلفت أنظار الأحياء لشأن ذاته التي يترتب عليها دور بارز في تصحيح أخطاء الخلق وتوجيهيهم إلى الخالق سبحانه.
جاء ليطبق بنفسه الأخلاق المرجوة التي يسعد بها الناس ما تمسكوا بها وعاشوا بظلالها.
فلقد كانت الحياة قبل الإسلام مليئة بمفاسد وأضرار، لا يستقيم معها حال رجل صالح في الحياة أراد لنفسه الخير، وكأن الدنيا مع بقاء هذا الشر الذي لا يستطيع حد مواجهته ما يأذن بالهلاك، إلا أن الله تعالى أبى إلا أن يبعث نوراً يقشع به سواد الظلام، يضيء القلوب ويشعل مصابيح الهداية برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأى الناس النور في مولده.
___________________________
(1) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، (1/ 393).
(2) رواه ابن حبان (6335).
(3) رواه الحاكم (4174).
(4) الوفا (1/ 94).
(5) دلائل النبوة (135).
(6) الشمائل المحمدية، الترمذي، ص7.
(7) دلائل النبوة، البيهقي (1/ 280).
(8) الوفا، ابن الجوزي، ص406.