على الرغم من أن العالم الإسلامي في القرن الخامس الهجري كان أفضل بصورة نسبية من الواقع المعاصر الذي تحياه أمتنا في اللحظة الراهنة، فإنه يتشارك معه في الكثير من القسمات والسمات.
لو تطرقنا للوضع الثقافي والفكري تحديداً، سنجد تشابهاً أشد، فالواقع الثقافي آنذاك كان متأزماً بسبب التعصب المذهبي الفقهي من جهة، والتوجهات الفلسفية المستوردة من التراث الإغريقي والأفكار الباطنية الغنوصية من جهة أخرى، حتى علم الكلام الذي يفترض أنه يمثل الفلسفة الإسلامية أصبح شكلانياً جدلياً لا يهدي الإنسان إلى حق أو إيمان.
هذه الحالة من فوضى الأفكار التي تجعل الكثيرين يميلون نحو الشك وهي التجربة بالغة الصعوبة التي عاشها الإمام أبو حامد الغزالي وخرج منها منتصراً ببرد اليقين، ووضع في ضوئها ملامح منهجه التربوي، فكيف يمكن لنا استلهام هذه التجربة وهذه الرؤية والمنهجية في ضوء تشابه المعطيات الثقافية والفكرية؟ وهل يمكنا إعادة إنتاج هذه المنهجية بثوب معاصر يراعي اختلاف الأزمنة؟
حجة الإسلام.. ولكن!
على الرغم من الأهمية الكبيرة التي أداها الإمام أبو حامد الغزالي في صناعة الفكر الإسلامي حتى وصفه الكثيرون أنه مجدد القرن الخامس ولاقى لقبه «حجة الإسلام» القبول في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، وعلى الرغم من تراثه الفكري الثمين ومنهجه الإبداعي ودوره الذي مارسه في إصلاح التوجهات التربوية السائدة في عصره، فإن ذلك كله لا يعني الموافقة على كل ما قدم وكتب، وهذا عين منهجه النقدي الذي يأخذ من كل توجه أفضل ما فيه، ويعرض كل فكرة للنقد والنظر.
ولسنا هنا بصدد التعرض لبعض الأفكار التي هي بحاجة لإعادة النظر، وإنما نحن بصدد الاستفادة من تجربته التربوية سواء على المستوى الفردي الذاتي أو على مستوى المنهج الذي وضعه للإصلاح التربوي الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه.
سر الإخلاص
لعله السؤال الأكثر صعوبة على الإطلاق: هل فشلت التيارات الإسلامية على المستوى السياسي أو التربوي بسبب العقبات الخارجية التي واجهتها حقاً، أم لأن هناك خللاً في ركيزة الإخلاص؟ وقبل المسارعة للإنكار كحيلة دفاعية نحمي بها ذاتنا الجماعية من قسوة النقد الذاتي، أظن أننا بحاجة لعامل الوقت والصدق لتحري الإجابة الحقيقية، والسؤال ليس اتهاماً فردياً بأي حال، ولكنه موجه تحديداً للذات الجماعية، وبالطبع السؤال لا بد أن يكون مطروحاً بصورة دورية لكل فرد، بل إن استهجان السؤال يمثل إشكالية حقيقية، فعمر بن الخطاب سأل حذيفة بن اليمان إن كان من المنافقين؟
هذا السؤال كان محورياً في التجربة التي خاضها الغزالي، ففي الوقت الذي كان يدرس فيه في المدرسة النظامية وهي أعلى هيئة تعليمية في القرن الخامس، بل كان على قمتها وقد ذاع صيته كعالم نابغة قادر على إفحام الخصوم، وقد استقرت أحواله المالية والاجتماعية، إلا أن سؤال الإخلاص والجدوى مما يقوم به كان يلح عليه إلحاحاً رهيباً.
الشعور بالأرق النفسي وعدم الارتياح رغم أنه لا يوجد سبب ظاهري لهذا حتى استطاع أن يسأل نفسه هذا السؤال بشجاعة، وأجاب نفسه بصدق، فالنية مدخولة، والتدريس جاف لا يصل للقلوب فيزهر فيها الإيمان، وعلى الرغم من ذلك ظل نحواً من عام يتجاهل السؤال حيناً ويحاور نفسه أحياناً فيتمثل الشيطان له في صورة قوى العقل ويلعب على المخاوف الطبيعية للإنسان؛ الاستقرار، والمكانة الاجتماعية، والحرية المالية، والمهنة التي يجلها المجتمع، فلماذا يا أبا حامد تغادر هذا كله؟!
علم لا ينفع
إن كان الإخلاص يمثل الركيزة الفردية خاصة للقادة والعلماء وإجابته هي سر بين الإنسان وربه، فإن العلوم التي يتم تدريسها هي ركيزة موضوعية، فعصر الغزالي الذي تلا العصر الذهبي للترجمة انتقلت فيه فلسفة أثينا من مجرد دراسة إنسانية ثقافية للاطلاع على ثقافة القوم وعلومهم لاعتناقها، حتى إنها أصبحت كما لو كانت ديناً آخر وعلوم الدين أصبحت شكلانية، فتفاصيل التفاصيل الفقهية تتناحر عليها المذاهب، وعلم الكلام لا يهدي إلى الإيمان بالله الخالق، إنما هي قضايا وأسئلة لا ترد بشكل فطري على عقل وقلب المؤمن يتناظر حولها العلماء، وتصوف أخرق يصل حد معاداة الشريعة باسم الحقيقة، والعلوم التي يحتاجها الناس في معاشهم كالطب ونحوه تبدو في مرتبة متأخرة من العلوم وتكاد تكون حصرية لأهل الذمة.
نفس المأزق الذي نعانيه في هذا العصر، طبيعة العلوم والمقررات التي يدرسها أبناؤنا، فالتعليم الديني الرسمي هو نسخة مما عابه الغزالي على علوم وعلماء عصره، والتعليم الديني غير الرسمي في حالة من الجمود والتقليد والنوازل الحديثة تقاس على القديمة والتناحر قائم، وهناك ما يشبه الرفض للخلاف الفقهي، وعلوم العقيدة والتوحيد هي اجترار للقضايا القديمة حتى انتشر الشك والإلحاد بين الشباب، في ظل شح حقيقي في مقاومة هذه الشكوك والوجودية والبراجماتية والتفكيكية، مثلوا ما يشبه «الدين» لدى بعض المثقفين، بدلاً من الفلسفة المشائية القديمة وأصبحت الحاجة ماسة لرؤية تربوية جديدة قادرة على صناعة وإنتاج فرد مؤمن يمثل نواة لنهضة أمة.
رؤية تربوية
لم يركن أبو حامد الغزالي لحياة الانعزال التي اختلى فيها بنفسه متأملاً فيها متحاوراً مع أعماقها بعد أن اعتزل التدريس في المدرسة النظامية، فشرع في التأليف، وكثير منه مرتبط بالأخلاق والتربية، ومن ثم عاد للحياة العملية يطبق ما تأمله وكتبه، وهذه بعض ملامح رؤيته التربوية التي يمكن أن نعيد إنتاجها ونبني عليها فتكون بمثابة الجذور الحضارية العميقة:
– الرؤية التربوية تقوم على مبدأي الإخلاص من جهة والأخلاق الفاضلة من جهة أخرى، وذلك للعالم والمتعلم، ودون الإخلاص والأخلاق الفاضلة سينهار البناء التربوي، وقد قدم الغزالي كماً هائلاً من الدراسات عن الأخلاق وأسسها النفسية وكيفية اكتسابها أو الابتعاد عنها ودور العادات في ذلك، وآلية صناعة العادة مما يصلح للبناء عليه لصناعة علم نفس إسلامي، والجدير بالذكر أن التربية الروحية والخلقية في رؤيته لا بد أن تكون بمثابة مقدمة للعلوم العقلية والتجريبية.
– نقد الأفكار لا يتم إلا بعد استيعابها، فلقد كتب «مقاصد الفلاسفة» قبل «تهافت الفلاسفة»، وهو لم يرفض الفلسفة كلية ولم يرفض المنطق واستخدمه أيضاً، وهو ما يمكن أن نطلق عليه النقد الواعي البناء للأفكار، فالمؤمن أحق بالحكمة متى وجدها.
– يرتبط بالنقطة السابقة أن تقوم رؤيتنا التربوية على قيمة الشجاعة العلمية والنفسية، وما كان موقفه من اعتزال التدريس إلا شجاعة، وما كان ما دونه من تجربة في المنقذ من الضلال إلا شجاعة، وفي النظرية التربوية الخلقية للغزالي تقف الشجاعة بجانب الحكمة والعفة والعدالة كأمهات للأخلاق الفاضلة.
– الاهتمام ببناء نظريات تربوية مستلهمة من روح الدين واعتبار ذلك علماً من أشرف العلوم، والقارئ لتراث الغزالي يقف على كثير من ملامح أساسيات النظرية التربوية الإسلامية بكل عناصرها، فهو يكتب للمعلم والمتعلم، ويكتب عن المنهج والآليات، ويمكن ملاحظة تفريقه بين التوجيه التربوي للصغار والكبار، ومدى واقعية طرحه واشتباكه مع كثير من التفاصيل التطبيقية، فهو لا يكتفي بالتنظير ووضع الخطوط العريضة للمنهج، وهي أمور تستحق منا إعادة إنتاجها بثوب عصري والبناء عليها، والأهم تفعيلها بشكل حي على أرض الواقع.